يكتسي الصراع الذي قاده لينين ضد الكانطية نسبة إلى كانط 1724ـ1804 : المذهب النقدي التجريبي، أهمية قصوى، في السير بخطى النقد المادي للتاريخ عند إنجلس، في مواجهة الكانطيين في النصف الثاني للقرن 19، وسماهم باللاعرفانيين، دون أن يذكر أسماءهم، حتى لا يفتح مجالا للصراع السياسي الهامشي، حيث اهتمام الماركسية ببناء مشروعها : المادة في مواجهة مثالية هيغل1770ـ1831.
عمل لينين على إبراز، مخلفات المثالية في المذهب النقدي التجريبي، في كتابه "المادية والمذهب النقدي التجريبي"، الذي أبرز فيه أعمال إنجلز 1820ـ 1895، في النصف الثاني من القرن 19، موضحا دور الكانطيين، في تشويه الماركسية باسم تطويرها، في اتجاه الخلف، عبر إحياء الكانطية، منتقدا أساتذة العلوم الطبيعية، المسخرين في خدمة المشروع البرجوازي، في جامعات الدول البرجوازية بأوروبا وروسيا.
واعتبر لينين أن جميع اتجاهات هذا المذهب، عبارة عن مدارس صغيرة في علم الاجتماع، تعلن الكانطية مصدرا لإلهامها، ضد المادية الماركسية والديالكتيك الماركسي، وتناول أفكار الكانطيين بالنقد، وأوضح كيف انطلقوا من كانط، في محاولة لبناء "نظريت"هم، مرورا بهيوم 1711ـ1776 وصولا إلى بركلي 1685ـ1753، لينهوا مشروعهم المثالي الذاتي.
وتم دعم هذا المشروع، من طرف الديمقراطية البرجوازية، الذي تستلهم منها الرأسمالية منطلقاتها المثالية الذاتية، وتركيزها في التعليم الرسمي، المدعوم من طرف البنوك، عبر المناهج والبرامج التعليمية، التي تهدف إلى صنع نماذج بشرية، تخدم الرأسمال المالي الإمبريالي.
يعتبر كتاب "النقد الفلسفي للتاريخ"، للفيلسوف الوضعي الفرنسي ريمون أرون 1905ـ 1983، مهما في إبراز الأساتذة البرجوازيون، الذين وضعوا أسس الكانطية بألمانيا، وامتداداتها بأوروبا، من أجل بناء تصور حول المهام الآنية للفلسفة الماركسية.
في مقدمة الكتاب، أشار أرون باختصار إلى موضوعه، الذي يتناول "هدفا واحدا محددا"، دون الإحاطة بمجمل ما تشكله "نظرية التاريخ بألمانيا المعاصرة". مع العلم أننا نعرف ما لعبته الفلسفة الألمانية، بمختلف أشكالها، في تكوين الفكر الألماني، وحدد ذلك في تأثير "منطق المعرفة التاريخي وكذا الرؤى الشاملة، الكثيرة وغير المؤكدة"، شبينغلر 1880ـ1936، التي أثرت على وعي الألمان، مع بداية القرن 19، انطلاقا من المثالية الكلاسيكية، "على الرغم من رد الفعل ضد المنطق الهيغلي أو الفرضيات الميتافيزيقية".
ويشكل الكتاب بداية دراسة تشمل جزأين : الأول يتناول "النقد الفلسفي للتاريخ"، الثاني يهتم ب"L’historisme، فلسفة النسبية التاريخية"، بواسطة الميتودولوجيا، التي "استعادت الحق في الوجود"، بدل "فلسفة التاريخ الملوثة بالوضعية" في النصف الثاني من القرن 19.
وحدد لدراسته مظهرا ل"المسألة التاريخية" ومرحلة من "الفلسفة الألمانية".
واتسم منهجه في الاشتغال بالدمج بين "الفلسفة والسوسيولوجيا" عبر "منهج أكثر أو أقل سوسيولوجيا" و"منهج فلسفي".
واختار الفلاسفة الذين تناول أعمالهم بالدرس، وهم ليسوا من نفس الجيل : دلتاي 1874ـ1911، ريكرت 1863ـ1936، سيمل 1858ـ1918، فيبر 1864ـ 1920، لكنهم كانوا في نفس الوقت، "يفكرون ولديهم الوعي بالتفكير" في سؤال وحيد يعتبرونه محتملا لحل حقيقي )وواحد(، واعتبرهم الكاتب فلاسفة وجب معاملتهم كفلاسفة، لأنهم يفكرون في مسألة تعترض الجميع، ويتدارسون الحلول التي يقدمونها.
وأكد أنه لا يسعى إلى التعريف بالمذاهب المعروفة بفرنسا، لكن يريد "الاقتراب أكثر من الحقيقة"، هي نظرة تؤطر هذا الكتاب، التي تفيد أن "الأصول " و"المناطق" ليس لها مكان في هذه الدراسة، ولهذا يتناول تحليله أربعة مذاهب، التي يعتبرها منفردة في محاولة تناول "نقد الحقيقة التاريخية".
يقر أن هناك مناهج أخرى تم تطبيقها في أعمال تاريخ الفلسفة، لها الحق في ذلك طبعا، كمن يكتب "بيوغرافيا دلتاي" مثلا، لكنه يعتبر ذلك من عمل "هواة البيوغرافيا المثقفين"، مما دفعه لإنجاز عمل يجعلنا نفهم جيدا "طبيعة القرن 19 بألمانيا"، مع امكانية معرفة كذلك "الثقافة الألمانية عامة"، مع العلم أن دلتاي رفض هذه الطريقة في كتابة التاريخ، ويجهد نفسه من أجل "إحياء الأفكار وإعادة إحيائها"، بدل الأفكار التي مرت، نقوم بتقدير "أفكار صافية منفصلة عن المؤلفين"، دون متابعة تفاعلات "الفرد" و"المكان"، خبر "شخص" و"مذهب"، نعزل المفكرين، ونعتمد بشكل من الأشكال النظام، ذلك ما يدعو إليه دلتاي في التحليل.
واعتبر أرون دعوة دلتاي بعزل "الكاتب" عن "مؤلفاته" واعتماد "النظام" ونفي "المفكرين"، تعسفا، وتضحية بالناس مقابل المؤلفات، بينما "المؤلفات تنتمي لنفس العالم"، ولا يمكن مقارنة الإنسان بالمؤلفات، كما يقول الفيلسوف الهيغلي كويري 1892ـ1964، عن هذا المنهج.
في هذه الدراسة، لا يعير الكاتب لهذا المنهج أي اهتمام، لأنه يعتقد أن عالم الاجتماع ومؤرخ الحضارة، يتناولان الفلاسفة الألمان على أنهم ألمانيين، وقرر دراستهم من خلال أربعة فلاسفة، لكون ذلك يشكل "مسألة آنية وضرورية"، لأن "القلق التاريخي" الذي يساوره يختفي أمام "الجهد" من أجل "الفهم الداخلي".
وحتى يكون منهجه شرعيا، تناول في دراسته هذه "مسألة فلسفية"، والمرحلة التي يتناولها عبارة عن "وحدة مستقلة"، مما يتطلب تحديد المرحلة "الحرجة" في "تاريخ الفلسفة"، من أجل تحديد "هدف دراسته".
وأكد أن "انهيار الفلسفة الهيغلية"، قد سجل، في "نظام الفكر المضارب"، المنبثق من النظرية المجردة، "محطة تاريخية رئيسية" في القرن 19 بألمانيا.
واعتبر أن "الفلسفة الهيغلية" ممتدة عبر "الماركسية" من جهة، وعبر "المؤرخين، الاقتصاديين، القانونيين، مختصين في الدراسات التاريخية Philologues، فيما يسميه دلتاي علوم الروح"، من جهة أخرى.
كما أكد أن "الفلسفة بألمانيا" في وسط القرن 19، تبدو في "وضع مرهق"، بينما "علوم الأخلاق" و" العلوم السياسية" تتطور، ذلك ما وجده دلتاي لما وصل إلى برلين في 1850، ما جعلة يقدر ويشك في "نظام المثالية الكلاسيكية"، ولم يعد يعتقد بال"روح المطلقة"، و"تجاهل الماركسية"، فيما يتعلق ب"نظم الديانات"، وهو غير مبال، يطبق جميع الأنواع : يحب الغوص في "تفاصيل حياة نادرة"، لكنه بيوغرافي يطمح أيضا إلى "تاريخ عالمي".
وفي غياب "فلسفة واقعية" أو "ممكنة"، خطط دلتاي مشروع موسوعته "علوم الأخلاق"، مشابهة لموسوعة "كانط"، التي يعتبرها قيمة فقط في مجال "العلوم الطبيعية"، لكن "علوم الأخلاق"، التي يفكر فيها، يجدها في بقايا مفاهيم "الفلسفة الهيغلية"، ومن جهة أخرى ف"الحقيقة التاريخية" عنده، هي التي "تعترف بالماضي" والتي "تتطور عبر التاريخ".
وكذلك المسائل )علاقة الفرد بالمجموعة، المنبثقة من الشمولية( التي تعترض هذا المنهج، الذي يسعى إلى "الوضعية" أي التجريبية، تتجاوز إطار "دراسة خاصة"، وقد تتجاوز كذلك إطار "فلسفة التاريخ".
وما اعترض أيضا فلسفة دلتاي هذه، تلك "المفارقة المضاعفة"، المتجلية في تطبيق "منهج علمي" على "مصاعب ميتافيزيقية"، ذلك ما أرهقه طيلة حياته حتى نهاية القرن 19، حيث سيطرت "الوضعية العلمية" و"نيوكانطية" ماربورغ، على الجامعات الألمانية، حيث يسير "علم النفس" في اتجاه "تعويض الفلسفة".
ويقدر دلتاي ويؤمن بأساتذة العلوم الطبيعية أمثال Helmholtz، Ebbinghaus، Zeller، Sigwart، حيث كان يحلم دلتاي ب"العلم الصارم، المنطق، المنهج التجريبي"، ويتنفس ب"الأدب، الموسيقى"، ورفض دلتاي تبديل "عمليات العلوم الفيزيائية"، لأنه كان يحترم "كل شيء حقيقي".
الشيء الذي أثار دالتاي ببرلين، هو مدى نفوذ "نتشه 1844ـ1900، وماترلينك 1862ـ1949" على الشباب والمجتمع، وهو يريد "التخلص من نير المادية"، ويسعى ل"كشف أصالة تاريخ الإنسان"، ولا يرغب في "إعادة إقحام الإنسان الملموس الكامل" كموضوع ل"التأمل الفلسفي".
لهذا عمل دلتاي على تعميق "علوم الأخلاق" و"إرث هيغل"، من أجل منافسة نتشه، دون أن يؤدي ذلك إلى "تشاؤم الفرد لوحده".
وأشار أرون أن "النقد الفلسفي" ينبع من ال"نيو ـ كانطية"، بعد الانقطاع عن "المضاربة الفلسفية"، واسترجع أنفاسه بال"العودة إلى كانط".
ويشير إلى أن مذهب ريكرت مرتبط بهذه الحركة، وعملت المدرسة الألمانية بالجنوب الغربي، تكميل "عمل كانط" ب"النظرية النقدية للتاريخ".
تلكم مصادر الفلسفات، التي يريد أرون دراستها، وهي "علوم الأخلاق" من جهة، التي يسعى إلى أن يستخرج منها "ميتودولوجيا جديدة" و"مذهب الإنسان"، ومن جهة أخرى ال"نيو ـ كانطية"، المطروح لتحديد وتحقيق "علم الماضي" عبر التحليل التجاوزي Transcendantale )تجريد الحقائق الحسية عبر الجهد العقلي(.
ويقول أن هذين الغرضين يلتقيان في موضوع "نقد الحقيقة التاريخية"، لكن نجد التعارض بينهما، حيث ينطلق ريكرت من "أنا" التجاوزي، ودلتاي من "أنا" الفردي.
ويطرح الكاتب السؤال التالي : هل يمكن من خلال هذه الشروط تحديدا استخلاص مفهوم "نقد الحقيقة التاريخية" ؟ ألا يبدو أن هذا المفهوم ينطبق مع اهتمامات وأبحاث متعددة ؟ حتى أن المسائل المنطقية تختلف حسب المؤلفين.
واستنتج ما يلي :
ـ يرغب دلتاي ب"موسوعة العلوم التاريخية"، ثم سيكولوجيا تصير "رياضيات عالم الأخلاق"، وفي الأخير يحاول تحليل "المفاهيم الأساسية لعلوم الروح".
ـ يريد ريكرت بلورة بشكل منطقي "مبادئ علم المفرد".
ـ يتساءل سيمل ما هو الفصل الزمني الذي يفصل "القصة" عن "الحياة".
ـ يجهد فيبير نفسه لتحديد حدود "الأحكام التاريخية" المحتملة ل"الحقيقة الكونية".
أخد الكاتب بعين الاعتبار هذا التعدد، لكن مع وجد موضوع مشترك بين المؤلفين الأربعة :
ـ دراسة طبيعة العلوم التاريخية.
ـ مبدأ فلسفي مشترك : معادي للفلسفة التقليدية للتاريخ.
يحاولون تجديد المسألة باستبدال الميتافيزيقيا بالتفكير الإيجابي.
لذلك وضع الكاتب فكرة "نقد الحقيقة التاريخية" في مركز دراسته، وتوجيه مداخلته نحو السؤال الأساسي : هل يمكن استبدال المنهج الكانطي بشكل يجعل فلسفة التاريخ غير ضرورية وتعميق منطق أصيل للعلوم التاريخية ؟
يأتي تقديم هذا الكتاب من جهة، من أجل الوقوف على الاتجاهات الفكرية المسيطرة في ألمانيا خلال القرن 19، ومن خلالها في أوروبا وأمريكا، ومن خلال ما جاء في مقدمة الطبعة الثانية في 1964، التي طرحت على الكاتب مراجعة تم نشره قبل ثلاثين سنة في 1934ـ1935، حيث أصبح يكتب بشكل مختلف، واكتفى بتصحيحات محددة ظهرت فيها شوائب مع مرور الزمان.
ومن جهة ثانية، العمل على إبراز أهم الفلاسفة التجريبيين في القرن 19، الذين أسسوا ال"نيوـ كانطية" ومبادئ ال"هيغلية"، واستمر تأثيرهم خلال القرن 20 في مواجهة المادية، بعد وفاة ماركس وإنجلس، في مستوى "النقد الفلسفي للتاريخ"، في الصراع بين الماركسية والبرجوازية، من أجل فهم أسس "النقد الفلسفي المادي" عند لينين، في العقدين الأولين من القرن 20، والصراع الأيديولوجي بين الماركسيين والتجريبيين، بعد أزمة العلوم الطبيعية، الذي برز بعد وفاة لينين، بين الماركسيين اللينينيين حول المسائل الأيديولوجية، السياسية وبناء الدولة اشتراكية، مما ساهم في إخفاق الفلسفة الماركسية، في مواجهة هجوم ال"نيوـ كانطية" وال"هيغلية"، حتى سقوط الاتحاد السوفييتي، ويسود المذهب التجريبي بأشكال متعددة، من قبيل ما يسمى الحداثة وما بعد الحداثة.
ذلك ما يطرح اليوم إعادة النظر في أشكال الصراعات الأيديولوجية والسياسية، على ضوء "النقد الفلسفي للتاريخ"، من وجهة النظر "المادية"، في مواجهة "المنهج النقدي التجريبي"، الذي يسود في الجامعات المغربية، وينتقل بشكل سلس، إلى السيطرة على التحاليل السائدة في كتابات الماركسيين، لجهلهم ب"النقد الفلسفي المادي"، وطغيان "المنهج التقليدي" لتناول قضايا الفلسفة والتاريخ، حيث يهيمن المنهج التجريبي على فكر الشباب الماركسي، من خلال ما تم تلقينه بالجامعات، مما يطرح إعادة بناء "المذهب النقدي المادي"، ونشره في أوساط الشباب الماركسي.
تقديم هذا الكتاب، يوحي بمهمة أساسية، عمل شاق وعميق : دراسة مضمون الكتاب، الذي يعتبر أرضية خصبة للنقد المادي للتاريخ، من أجل رد الاعتبار للفلسفة الماركسية، من منطلق المذهب النقدي المادي، انطلاقا من أسس الماركسية : ماركس وإنجلس، والماركسية اللينينية : تجربة لينين الفلسفية، مما يتطلب تكثيف قوة الجهد وتعميقها، ليس للتأمل الفلسفي، لكن لهدف واحد ووحيد : إعادة بناء المذهب النقدي المادي للتاريخ.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire