قام الكاتب سلامة كيلة في تقديمه لكتاب "في التناقض" لماو تسي تونغ، بتناول مسألة التناقض باعتباره أحد قوانين الديالكتيك الماركسي، وقال عن هذا الكتاب :"هذا نص مهم، لأنه يبحث في مسألة التناقض."، ويقدم لنا الكاتب في تقديمه هذا ماو على أنه أدخل إضافات على أحد أهم القوانين الأساسية للديالكتيك الماركسي، الذي وضعه ماركس وإنجلز وطوره لينين على مستوى المعرفة والفلسفة، وقال الكاتب :"ولا شك أن ماو تسي تونغ قد قدم إضافات مهمة في هذا البحث، أي تعدد التناقضات."، انتهى كلام الكاتب، وهذه المقولة ليست علمية، حيث لا وجود ل"تعدد التناقضات" في الواقع الموضوعي، إنما تعدد أشكال التناقض مع تعدد مكونات المادة والحركة، فالتناقض كقانون لا يتجزأ، حتى يصبح متعددا لا نهائيا كجميع الأشياء، فهو قانون يحكم جميع الأشياء في الطبيعة والمجتمع، في المادة والحركة، وهنا يبدأ طرح الكاتب لمسألة التناقض كقانون أساسي، وهنا يبدأ قلب الجدلية، مما يجعلها تمشي على رأسها.
ولتأكيد قوله حول إضافات ماو، اعتبره أنه "ميز، من ثم، بين الرئيسي والثانوي فيها، كما أنه دخل في تفصيلات عن الطرف الرئيسي في كل تناقض، ومركز التعادي فيه، إضافة إلى الإشارة إلى عمومية التناقض وخاصيته، وإلى الوحدة والصراع بين طرفي التناقض نتيجة تعدد التناقضات."، كما جاء في مقدمته، وأكد أنه يجب اعتبار الرئيسي والثانوي فيه "وبالتالي من الضروري فهم الرئيسي والثانوي فيها، وكيفية التعامل مع كل منها ومن أجل حسم التناقض الرئيسي."، كما جاء في قوله.
إن اعتبار الكاتب عمل ماو هذا "إضافات مهمة"، إنما يدخل في مجال محاول توسيع رقعة الكتابة في هذا الشأن في تراكم من الكلام الذي لا يفضي إلى تراكم كيفي، في انعدام تام للقدرة لدى الكاتب، على تحريك ما هو أساسي في خلاصات ماركس حول الديالكتيك، وفي هذا القانون بصفة خاصة، أما القول ب"إدخال إضافات" على هذا القانون، فهو يأتي ضمن جهل الكاتب لمعنى القوانين الأساسية، في الطبيعة والمجتمع، التي لا يمكن تحريكها، لكن يمكن فقط اكتشافها وتطبيقها في الطبيعية والمجتمع، في المادة والحركة، ليس من أجل تغيير هذه القوانين في حد ذاتها، إنما من أجل إحداث التغيير في الطبيعة والمجتمع، عبر تحريك التناقض داخل الحركة، مع العلم أن لا حركة بدون مادة كما قال إنجلز.
والقول ب"إدخال إضافات" على هذا القانون الأساسي، هو جهل بطبيعة هذا القانون التي لا تتغير، لكن الذي يتغير هو مجال تطبيقه في علاقته بالقانونيين الآخرين : النفي ونفي النفي والكم والكيف، مما يحدد نوعية التناقض في كل مجال على حدى، لكن ضمن الحركة التي تميز المادة، أما الحديث عما هو رئيسي فيه وما هو ثانوي، إنما يأتي ضمن اللعب بالكلام حول جدلية الأشياء، والتناقض بصفته قانون الحركة الموجودة في المادة : الواقع الموضوع، في الطبيعة والمجتمع، موجود على شكل العملية الجدلية التي تجري في جميع تفاصيل المادة والحركة، وفي جميع مجالاتهما، ويمكن تناول مجال معين حددناه سلفا للدراسة باستعمال الجدلية، من أجل تحديده في ما هو رئيسي في الحركة وما هو ثانوي فيها، ومن منظور قانون التناقض في علاقته بالقانونيين الآخرين، وهنا لا تجري عملية الجدلية في حد ذاتها على التناقض بعينه، فالرئيسي والثانوي موجودان سلفا في كل شيء، وقانون التناقض يشملهما، كما يشمل جميع مكونات المادة والحركة، وهما ليسا معطيين مطلقين، إنما الرئيسي والثانوي موجودان في علاقة جدلية، ويحكمهما التناقض في الصراع بينهما، وفي الصراع داخل كل واحد منهما، بحكم العلاقة بين العام والخاص الموجودان في كل الأشياء في المادة والحركة، في الطبيعة والمجتمع.
والعلاقة الجدلية التي تربط العام بالخاص، الجوهر بالظاهر، الرئيسي الثانوي ...إلخ موجودة في كل شيء في الطبيعة والمجتمع، في المادة والحركة، وليس هناك خاص مطلقة وعام مطلق، ففي كل خاص عام، كما أن في العام يوجد الخاص، وفي الخاص يوجد العام، في علاقة جدلية لا متناهية، كما قال لينين في كتابه "حول الديالكتيك" :"... فالخاص غير موجود إلا في العلاقة التي تؤدي إلى العام. والعام غير موجود إلا في الخاص، عبر الخاص. كل خاص له طابعه العام (بهذه الصورة أو تلك). وكل عام هو (جزء أو جانب أو جوهر) من الخاص. وكل عام لا يشمل جميع الأشياء الخاصة إلا في وجه التقريب. وكل خاص لا يشترك تمام الاشتراك في العام، إلخ، إلخ .. كل خاص يرتبط عبر آلاف الدرجات الانتقالية بعناصر خاصة من طبيعة أخرى (أشياء، ظاهرات، تفاعلات)، إلخ ..".
أما تناول مفهوم التناقض في علاقته بالرئيسي والثانوي، إنما يندرج ضمن الجدلية الموجود في المادة والحركة، في الطبيعة والمجتمع، أما القول بأن هناك تناقض أساسي أو رئيسي أو مركزي والتناقضات الثانوية، ليس باكتشاف علمي، لكون التناقض في ما هو رئيسي يختلف في ما هو ثانوي، وتجمعهما العلاقة الجدلية في ظل الوحدة بينهما، في التناقض والصراع، التي تنطبق على كل الأشياء في الطبيعة من عالم الذرات إلى عالم المجرات أو ما يسمى في الفيزياء L’infiniment petit et l’infiniment grand، العالم اللامتناهي الصغير والعالم اللامتناهي الكبير، وفي المجتمع في أبسط العلاقات الاجتماعية اليومية وأعقدها في حالة الثورات الاجتماعية.
والكاتب يريد أن يحول عمل ماو من مستواه البسيط في الديالكتيك، الموجود أصلا في جميع الأشياء في الطبيعة والمجتمع، في المادة والحركة، إلى مستوى عال من الاكتشافات العلمية في المعرفة الماركسية، وبهذا يحدث تشويشا في ذهن القارئ، عبر اللعب بموقع الرئيسي والثانوي في المادة والحركة، وإخراجهما من الواقع الموضوعي، وإسقاطهما على أحد القانون الأساسية للحركة في علاقتها بالمادة، ويقول أنه يقوم بإزاحة التشويش الذي تم نشره في صفوف الشيوعيين بالصين، وفي الحركة الماركسية ـ اللينينية عامة، لكنه لم يفعل غير تعميق هذا التشويش.
والتناقض باعتباره قانون أساسي في الطبيعة والمجتمع، في المادة والحركة، موجود في الرئيسي، كما هو موجود في الثانوي، في العلاقة الجدلية بين الرئيسي والثانوي، وليس في "التناقض الرئيسي" و"التناقض الثانوي"، وهنا يكمن الخطأ، ويحصل التشويش في ذهن الكاتب، فالتناقض قانون، وهو موجود بشكل أساسي، من بين القوانين الثلاثة الأساسية في المادة والحركة، في الطبيعة والمجتمع، التي حددها العلم المادي الماركسي، أما إضافة صفة الرئيسي والثانوي لقانون التناقض، فهو عمل يحمل معه مغالطة ولبس وجب كشفهما، من أجل إزاحة التشويش في ذهن القارئ، إزاحة القول غير العلمي في المعرفة الماركسية، كالقول ب"التناقض العام" و"التناقض الخاص"، و"التناقض الجوهري" و"التناقض الطاهري"،...إلخ، فنقول إنه اكتشاف جديد في علم الماركسية.
أما القول بالوحدة في ظل التناقض والصراع بين الأضداد، فهي مسألة بديهية وليست اكتشافا، فالذرات، الجزيئات، الأجسام ... الأقمار، الكوكب، المجرات ... أو بصفة عامة : المادة، كما قال عنها لينين : "المادة مقولة فلسفية للإشارة إلى الواقع الموضوعي"، فالوحدة موجودة في الشكل، الوحدة في ظل التناقض والصراع بين مكوناتها، وكل مكون موجود في شكل الوحدة في ظل التناقض والصراع بين أجزائه المتناقضة ... هكذا إلى ما لا نهايته.
قال لينين في هدا الصدد في كتابه "حول الديالكتيك" :"... كل هذه أيضا نتائج لجهل الديالكتيك، كل ما لا يتغير، من وجهة نظر إنجلس، هو أمر واحد فقط، هو عكس الوعي البشري (عندما يكون الوعي البشري موجودا) للعالم الخارجي الموجود المتطور خارج وعينا، لا وجود في نظر ماركس وإنجلس لأي "ثابية" أخرى، أو لأي جوهر "مطلق" آخر بالمعنى الذي رسمت به الفلسفة الأستاذية هذه المفاهيم. فإن "كنه" الأشياء أو "الجواهر" هما أيضا نسبيان، وهما يعربان فقط عن تعميق المعرفة البشرية للمواضيع، ولئن كان هذا التعميق لم يمض أمس إلى أبعد من الذرة، واليوم أبعد من الإلكترون والأثير، فإن المادية الديالكتيكية تلح على الطابع المؤقت، النسبي، التقريبي لجميع هذه المراحل من معرفة الطبيعة من قبل العلم المتطور المتقدم لدى الإنسان. إن الإلكترون لا ينضب مثله مثل الذرة، والطبيعة لا متناهية، ولكنها توجد إلى ما لانهاية، إن هذا الاعتراف القاطع الوحيد، بوجودها خارج وعي الإنسان وأحاسيسه هو الذي يميز المادية الديالكتيكية عن اللاعرفانية النسبية وعن المثالية."
إن الكاتب من خلال هذه المقدمة يبحث عن طريق للتميز، في ظل الحركة الماركسية ـ اللينينية، وبشكل فج، من أجل الوصول إلى هدفه الأساسي، وهو أن البلشفية تم تجاوزها من طرف الثورة الصينية، وبالتحديد في أعمال ماو المتقدمة في المعرفة الماركسية، في مستوى عال من المعرفة والفلسفة، في محاولة انتهازية لتجاوز أعمال لينين، التي لا يستطيع الإحاطة بها، في مضمونها العلمي وتراكمها الهائل على جميع المستويات المعرفية، الفلسفية، السياسية، الاقتصادية، والتنظيمية : في أعلى مستوياتها، في العلاقة بين الحزب، الطبقة والجماهير، وفي البناء الثوري للاشتراكية.
ويسعى الكاتب لوضع أسس، تسديد الضربة القاضية للديالكتيك الماركسي لدى لينين، عبر توجيه انتقاداته لأعمال ستالين حول المادية الجدلية، ذلك ما أشار إليه في آخر المقدمة، في محاولة فاشلة لضرب النظرية الماركسية اللينينية، عبر ضرب التجربة الاشتراكية بالاتحاد السوفييتي، مما قاده إلى الوقوع في الديالكتيك الميتافيزيقي، عبر المنهج المثالي الذاتي والسولبسيسم.
وكما رأينا في مقدمة الأستاذ سلامة كيلة لكتاب ماو "في التناقض"، في تأكيده حول ما يسمى "التناقض الرئيسي والتناقض الثانوي"، من وجهة نظر ماو، التي سماها الأستاذ "إنها إضافات مهمة" في الديالكتيك الماركسي، في حين لا يمكن إضافة صفة لقانون "التناقض"، الذي يعتبر أحد القوانين الأساسية في الطبيعة والمجتمع، في المادة والحركة، إلى جانب القانونيين الأساسيين : النفي ونفي النفي والكم والكيف، التي تحكم الصراع بين الضددين، المتناقضين. هذه القوانين الأساسية في الديالكتيك، التي حددها ماركس، وأزال عنها صفة المثالية، وما يحكم الحركة من تناقض في ظل وحدة الأضداد، عبر الصراع بينها، من أجل نفي بعضهما لبعض، عبر التراكم الكمي، الذي يعطي التراكم الكيفي، مما يحدث القفزة النوعية، والتحول في الصراع من مستوى معين، إلى مستوى عال من الصراع، في ظل تناقض جديد، في مستوى متقدم لأحد الضددين، وهكذا، في ظل "التطور بوصفه نقصانًا وزيادة، بوصفه تكرارًا، والتطور بوصفه وحدة الاضداد"، كما استخلصه لينين.
وفي ما سماه ماو، في هذا الكتاب "نظرتان إلى العالم"، جاء فيه ما يلي :"النظرتان إلى العالم، وعمومية التناقض، وخاصية التناقض، والتناقض الرئيسي والطرف الرئيسي في التناقض، والوحدة والصراع بين طرفي التناقض، ومركز التعادي في التناقض."، يتم فيه التلاعب بالكلمات، في تناقض صارخ، لا يبث بصلة بالديالكتيك الماركسي.
ونرى في هذا الجزء عبارتين متناقضتين : "التناقض الرئيسي" و"الطرف الرئيسي في التناقض"، وانسجاما فيما جاء في مقدمة الأستاذ سلامة كيلة، الذي يتماها مع مضمون هذا الكتاب، يؤكد الكتاب ذلك، خاصة في إضافة صفة "الرئيسي" إلى قانون "التناقض"، وهذا ما يسميه أنصار ماو، أو "الماويون" كما يحلوا لهم تسمية أنفسهم بذلك اللقب، في شكل من التباهي والتماهي، للتميز عن باقي تيارات الحركة الماركسية ـ اللينينية، التي ينعتونها بالتقليدية، نكاية فيهم، باعتبارهم، كما يظنون، أن فكرهم لم يرق إلى مستوى عال، من المعرفة الماركسية والماركسية اللينينية، التي أحدث فيها ماو ثورة علمية، وفعلا هي ثورة، لكن في اتجاه الخلف، في اتجاه قلب الديالكتيك الماركسي، بل والافتراء على لينين، بتحريف أقواله، وتفسيرها تفسيرا فجا، نتناوله فيما بعد.
أما قول ماو ب"التناقض الرئيسي" و"الطرف الرئيسي في التناقض"، الذي يعتبره دربا من تطوير الديالكتيك، إذا كانت هذه الترجمة صحيحة ؟ واللعب بالكلمات وقلبها، في جمل غير منسجمة، والقول بأن ذلك، من صلب عملية الديالكتيك الماركسي، وقد تطرقنا إلى ذلك في نقد مقدمة الأستاذ سلامة كيلة.
وكما جاء في تقديم ماو لهذا الكتاب، الذي أقر فيه أن "التناقض" هو قانون، وليس صفة، أي أنه يحكم جميع الأشياء، في الطبيعة والمجتمع، في المادة والحركة، في "صراع الأضداد" كما حدد لينين ذلك، ويحكمه التناقض، وهنا أكد ماو ويؤكد هذه الخلاصة، إلى هنا، ليس هناك تناقض بين لينين وماو.
ولكن أضاف ماو فيما سماه "الطرف الرئيسي في التناقض"، هنا يحدث تشويش على عملية "التناقض" و"الصراع بين الضددين"، التي أقرها لينين في كتابه "حول الديالكتيك"، ولتركيز هذا التشويش عمل ماو على إضافة "الصراع بين طرفي التناقض" أي "بين الضددين"، ذلك ما ينسجم مع خلاصة لينين في الصراع في ظل "الوحدة"، ولتعميق هذا التشويش أضافة ماو ما سماه "مركز التعادي في التناقض"، هنا يتم التلاعب بالكلمات، وقلبها، من أجل القول بأن هناك اجتهاد في الديالكتيك الماركسي ؟ حسب أصدقائنا "الماويين"، في نزعتهم نحو الديالكتيك الميتافيزيقي.
لقد حاول ماو هنا، تفسير خلاصات لينين في "حول الديالكتيك"، لكن هذا التفسير يشوبه خلط، بين "التناقض" كقانون أساسي في الديالكتيك الماركسي لدى لينين، و"التناقض" كمجال لعملية الديالكتيك لدى ماو، حيث القول ب"التناقض الرئيسي"، ليس هو القول ب"الطرف الرئيسي في التناقض"، وفي الصراع يوجد دائما طرفان متناقضان، ويوجد قانون "التناقض" الذي يحكم العلاقة بينهما في الصراع في ظل الوحدة، سواء أكانا طرفين أساسيين في الصراع، أو طرفين ثانويين في الصراع، أو الصراع بين الطرف الرئيسي والطرف الثانوي، أو الصراع في مجال رئيسي، أو مجال ثانوي، ويبقى قانون التناقض هو الذي يحكم هذه الحركة المعينة، في مجال من المجالات، السياسية، الاقتصادية، العسكرية، الثقافية، المعرفية، من المستوى الأدنى إلى المستوى الأعلى، ومن البسيط إلى المعقد... وهكذا دواليك.
وأضاف ماو كلمة "التعادي"، نسبة إلى العدو، والصراع ضد العدو، أي الصراع بين الضددين، مما عمق التشويش، والقول ب"مركز التعادي"، لا يعدو أن يكون تفسيرا لتمركز الصراع، في نقطة معينة، أو مكان معين، أو حالة معينة، أو زمان معين ...إلخ، وهنا لا وجود لاجتهاد، إنما هو، تنزيل للديالكتيك من المستوى العالي، إلى مستوى تبسيطي، في حركة معينة، أو معركة معينة، أو عمل معينة، أو عملية عسكرية معينة، محددة في مكان معين، أو زمان معين، يرى فيه طرف في الصراع وليس "طرف التناقض"، أهمية مركز الصراع فيه، أو جعل هذه النقطة مركز التناقض، وليس "التناقض" المركزي أو الرئيسي، إلى هنا لا يوجد شيء يمكن أن نسميه مستوى عال في المعرفية الماركسية، فبالأحرى تطويرها عاليا، إنما يوجد هنا، دخول في التفاصيل المملة، في أشكال عملية الديالكتيك، من البسيط إلى المعقد، من المسائل اليومية لدي الإنسان البسيط، إلى المسائل اليومية لدى المناضل الثوري، المحترف الثوري كما سماه لينين، من التكتيك إلى الاستراتيجي، وتحويل التكتيك إلى استراتيجية، لما يكون مركز الصراع هو عملية التكتيك، في العلاقة بين العام والخاص، كما أوضحه لينين، في كتابه "حول الديالكتيك".
أما الهدف، الذي وضع من أجله هذا الكتاب، كما جاء في تقديم الناشر، في قوله :"تصحيح التفكير المتسم بالجمود العقائدي الذي كان رائجا في الحزب بشكل خطير"، فإنه لم يتحقق إلى حد الآن، سواء في مقدمة الأستاذ سلامة كيلة، أو في مقدمة ماو والفقرة الأولى من كتابه، بقدر ما عمق هذا الجمود العقائدي، والانعزالية في الحركة العمالية كما سماه لينين.
إن التشويش، الذي يحمله مضمون هذا الكتاب، قد عمق التناقضات في الحركة الماركسية ـ اللينينية، وزاد في تعميقها، الجمود العقائدي، لدى أصحابنا "الماويين"، الذين يؤمنون بشكل أعمى، إلى درجة القدسية، بأقوال ماو، التي يضعونها فوق النقد، مما يجعلهم ينحون منحى، التجريبيين والوضعيين، الذي بقوا حبيسي المذهب التجريبي، المثالي الذاتي، ويدعون أنهم يطورون الماركسية.
والأخطر في مضمون هذا الكتاب، هو، اختزال خلاصات لينين الديالكتيكية، بل وبطرها، وتفسيرها تفسيرا خاطئا، كما جاء في قول ماو "إن وجهتي النَّظر الأساسيّتين (أو الممكنتين؟ أو المُشاهدتين تاريخياً؟) عن التطوُّر (الارتقاء) هما: التطوُّر كنقصان وازدياد، كتكرار؛ والتطوُّر كوحدة الضدَّين (انقسام الواحد إلى ضدَّين متعارضين تربط بينهما علاقة متبادلة)."، التي سماها أنها قول لينين في "حول الديالكتيك"، وفي هذا القول تشويه لمنظور لينين حول الديالكتيك الماركسي، عبر قول ماو بأن لينين يقصد هنا "النظرة إلى العالم" من وجهة نظر "المادية" و"الميتفيزيقية"، بل وتحريف أقوال لينين، وتأويلها وتنسيبها إليه ؟؟ عبر اختزال خلاصة لينين، التي استخرج منها ماو مقولته السابقة وأنسبها إلى لينين، لتفسير ما سماه "نظرتان إلى العالم"، في تحريف صارخ لخلاصة لينين، التي تحدث فيها حول "حركة العالم"، من وجهة نظر الديالكتيك الماركسي عند لينين، في تطويره للمعرفة الماركسية، إلى مستوى عال، في نقده للمذهب التجريبي، عبر صياغة نظرته إلى حركة العالم، أو نظرة الديالكتيك الماركسي إلى : المادة والحركة، و"المادة باعتبارها مقولة فلسفية للإشارة إلى الواقع الموضوعي" كما سماها لينين.
وخلاصة لينين في "حول الديالكتيك"، في نظره إلى الحركة والمادة، يتناقض تماما مع تأويل ماو لأقواله، بل وتحريف هذا النص الوارد في كتابة "حول الديالكتيك" فيما يلي :"ولأجل إدراك جميع تفاعلات العالم من حيث حركتها الذاتية، من حيث تطورها العفوي، من حيث واقعها الحي، ينبغي ادراكها من حيث هي وحدة من الاضداد. إن التطور هو "نضال" الاضداد. ان مفهومي (أو المفهومين الممكنين؟ أو المفهومين اللذين يعطيهما التاريخ؟) التطور الأساسيين هما : التطور بوصفه نقصانًا وزيادة، بوصفه تكرارًا، والتطور بوصفه وحدة الاضداد (ازدواج ما هو واحد، الى ضدين ينفي احدهما الآخر، وعلاقات بين الضدين)."، هذا النص، الذي يوضح فيه لينين التناقض في حركة العالم، يختزله ماو، في كون لينين يقصد به النظرة المادية والنظرية المثالية للعالم، في اختزال تعسفي لأهم خلاصاتها حول الديالكتيك الماركسي، بل وتحريفها عن اتجاهها العلمي المادي.
لا ندري، في النص المنسوب إلى ماو، في كتاب "في التناقض"، هل هو فعلا ماو، هو الذي قام بهذا التحريف ؟ أم الناشر ؟ أم المترجم ؟ سؤال مطروح أمام أصحابنا "الماويين" !
إن دراستنا لهذا الكتاب، تقودنا إلى اكتشاف، مدى التناقض الصارخ، بين خلاصات ماو وخلاصات لينين، والتناقض الصارخ، الذي يوجد في أقوال ماو التبسيطية، التي يسميها أصحابنا "الماويين"، مستوى عال من الديالكتيك الماركسي، يقودنا إلى التوصل، أن ماو لم يقم إلا بتحريف الديالكتيك الماركسي عند لينين، من الديالكتيك المادي إلى الديالكتيك الميتافيزيقي.
كما رأينا سابقا، حاول ماو إنتاج أفكار جديد عن التناقض، ولم يستطع تجاوز خلاصات لينين، بل عمل على تحريف بعضها، لكون أسلوبه في التعامل مع الديالكتيك، لم يتجاوز المستويات الابتدائية في تعليم تعاليم الماركسية، ونحن ننتقد ذلك المنحى في التعامل مع الديالكتيك الماركسي. وحاول تبسيط الديالكتيك، بالبدء بالأفكار الأولية عن العالم، وهو يتحدث عن الشيء، باطن الشيء، علاقته بالأشياء الأخرى، وتطوه، من أجل تفسير معنى الذاتي والموضوعي والعلاقة الجدلية بينهما، في قوله :"والواقع أنه حتى الحركة الميكانيكية المسببة عن القوى الخارجية تتحقق هي الأخرى بواسطة التناقض القائم بباطن الأشياء. وكذلك فإن النمو للنباتات والحيوانات وتطورها الكمي مسببان بصورة رئيسية عن تناقضاتها الباطنية. وينطبق نفس الشيء على المجتمع، فإن تطوره مشروط، بصورة رئيسية، بالأسباب الباطنية، لا الخارجية. فإن ثمة بلدانا عديدة تتسم بالعوامل الجغرافية والمناخية المتماثلة تقريبا، ومع ذلك فهي تختلف في تطورها اختلافا بينا، وتتفاوت درجات تطورها اختلافا عظيما، وإن تبادلات اجتماعية هائلة قد تجري في ذات البلد الواحد، بدون أن يطرأ أي تبدل على جغرافية هذا البلد ومناخه.".
هذا النص يبين بشكل واضح، مدى صحة ما أكدناه عن تبسيط الديالكتيك عند ماو، الذي أوقعه في خلط، بين ما يجري في الطبيعة، وما يجري في المجتمع، فما يجري بباطن الأشياء في الطبيعة، لا يماثل ما يجري بباطن المجتمعات البشرية، في أوساط المجتمعات البشرية، فالأشياء في الطبيعة قد تتأثر بالجغرافية والمناخ، وتتأثر بذلك طبعا بشكل كبير، أما الإنسان فلا يتأثر بالطبيعة إلا بشكل قليل جدا، هنا وقع الخلط لدى ماو، في محاولته مقارنة ما يجري في الطبيعة، مع ما يجري في المجتمع، وبشكل تبسيطي للديالكتيك.
إن الاشكالية التي تعرضت ماو في الحزب الشيوعي الصيني، هي أن مناضلي حزبه لم يكونوا ماديين فكريا بالمعنى الماركسي، مما أضطره إلى إعطائهم دروسا ابتدائية في تعليم تعاليم الماركسية، ولم يقم هنا بتطوير الديالكتيك الماركسي، كما يدعي "الماويون"، إنما أعاد ما تجاوزه الفكر البرجوازي : الفلاسفة البرجوازيون في عصر الأنوار، بل ذهب إلى إبراز الأفكار البدائية، التي تعتبر أن الطبيعة هي التي تحدد مجرى المجتمع، فالإنسان البدائي يعتبر الطبيعة هي مركز حركته، لما يصور لنا حدثا معينا، يصور الأشجار تمشي، الجبال تتحرك، والقمر يسير ..إلخ.
ومقارنة ما يجري في الطبيعة بما يجري في المجتمع، من أجل تأكيد وجود قانون التناقض في الطبيعة والمجتمع، لا يتم بشكل ميكانيكي، الذي يحاول ماو دحضه، لكن ماو يقع في نفس التفسير الميكانيكي، أو الديالكتيك الميتافيزيقي، بالخلط بين نمو النباتات في الطبيعة، وتطور الإنسان في المجتمعات، ذلك أن ماو بمحاولته تبسيط الديالكتيك، أو تعليم الديالكتيك بشكل تبسيطي لمناضلي الحزب، أوقعه في السقوط في الديالكتيك الميتافيزيقي، والتفكير الميكانيكي.
إن محاولة ماو، تجاوز الفكر البرجوازي الرجعي، ومحاربته في صفوف مناضلي الحزب، يتطلب دراسة الفكر البرجوازي، الذي لعب دورا هاما في القضاء على مخلفات الفكر الإقطاعي، المرتكز على الفكر الديني، مما جعل ماو بعمله هذا، يمارس القطيعة الإبستيمولوجية مع تطور الفكر البشري، في الصين شبه الإقطاعية المتناقضة مع أوروبا الثورة البرجوازية، إذ لا يمكن أن نؤسس للفهم الماركسي اللينيني، دون دراسة تاريخ تطور الفكر البشري، فالمسألة التي يريد مار معالجتها في هذا النص، تستوجب معالجتها في علاقتها بتطور الفكر البشري، من الإقطاعية إلى الرأسمالية، وبروز الاشتراكية العلمية، ويعتبر الفكر البرجوازي في هذه العملية، تقدميا في حينه، بعد انتصار المفاهيم البرجوازية على مصالح الإقطاع، قبل بروز الاشتراكية نقيض الرأسمالية.
لقد كان للتطور الهائل للقوى المنتجة بفرنسا، واستعداد البورجوازية الفرنسية، لخوض معارك الثورة البرجوازية ضد الإقطاع، من أجل تدمير علاقات الإنتاج الإقطاعية، دور هام في بناء الفلسفة المادية للفلاسفة الفرنسيين، الذين حملوا فكرا متطرفا ضد الأفكار القديمة، من الطبيعة مرورا بالدين وصولا إلى السياسة والاقتصاد، من أجل القضاء على النظام الإقطاعي، وحاربوا الفكر المثالي، ويقول ديدرو في هذا الصدد :"إن الحقيقة ليست هي الله الذي هو الطبيعة بل هي إما الله أو الطبيعة"، وحقق الماديون الفرنسيون نجاحا باهرا في تطوير الفلسفة الطبيعية، لكنهم فشلوا في مجال التاريخ، ولم يستطيعوا فك علاقة الإنسان بالمجتمع وعلاقته بأفكاره، مما جعل أفكارهم المادية التي أعطت الأهمية للطبيعة، عاجزة عن الوصول إلى العلاقة الجدلية بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، ويقول هيلفيتيوس :" إن الإنسان تصنعه ظروفه الاجتماعية"، مما يطرح إشكالية تغيير المجتمع، حيث إذا أراد الإنسان أن يتطور، لابد له من تغيير ظروفه الاجتماعية، التي صنعته الشيء الذي يطرح التناقض بين علاقة الإنسان بمحيطه.
وهكذا يجب التعامل مع المسألة ديالكتيكيا، دون بطر جزء مهم من تاريخ تطور الفكر البشري، وصدق لينين لما قال أن الاشتراكية تبني نفسها من الأدوات التي خلفتها الرأسمالية، ولا يمكن الانتظار حتى يصبح المجتمع كله بروليتاريا حتى نقوم بالثورة الاشتراكية، وأن البروليتاريا لما تظفر بالسلطة، تعامل العلماء الطبيعيين الذين خلفتهم البرجوازية معاملة الجار للجار، على أساس أن يقوموا بالمهام التي تحملهم لها البروليتاريا، أما محاولة ماو نشر الدياليكتيك بهذا الشكل التبسيطي، إنما يندرج ضمن النظر الميكانيني للأشياء، بينما هو يريد دحض هذا التفكير، لكن بأدواته نفسها، وليس بالديالكتيك الماركسي كما طوره لينين.
هنا تكمن علاقة التناقض بين الإنسان والعالم الخارجي، الإنسان والمجتمع، ليس في التناقض مع الطبيعة، لكن في التناقض مع ظروفه الاجتماعية، ومقارنة النبات في الطبيعة، ليس كما تحدث ماو عن هذا التناقض، وما سماه ماو "باطن الأشياء"، لا يطابق بالضرورة باطن الإنسان في المجتمع، بل هو تناقض في مستوى عال، من البسيط في النباتات والطبيعة، إلى المعقد في الإنسان والمجتمع، والخلل في الفلسفة المادية للفلاسفة الفرنسيين في القرن 18، يتجلى في اعتبارهم أن الإنسان نتاج ظروفه الاجتماعية، مما يعني أن المجتمع هو الذي يصنع الإنسان، وليس العكس، ويقول جون لوك :"إن أفكار الناس لا تخلق معهم بالفطرة"، وعارض أفكار ديكارت، الذي اعترف بالأفكار الفطرية، ولم يستطع الفلاسفة الفرنسيون تطوير مفهوم التاريخ، وظلوا حبيسي الفلسفة المادية الطبيعية، النظرة الميكانيكي للمجتمع، نتيجة عدم قدرتهم على القطيعة مع الميتافيزيقا، وقام هيغل، باكتشافه للصيرورة الجدلية، وحسم مسألة تطور التاريخ، لكن دون القطيعة مع مخلفات الميتافيزيقية، التي تكفل ماركسي بإزالتها من الديالكتيك الهغلي، وأسس الديالكتيك الماركسي.
وجاء في محاولة ماو "في التناقض"، دراسة التناقض في النظرة إلى العالم، من وجهة نظر المادية، في تناقض مع وجهة النظر المثالية، وأكد أن الديالكتيك المادي يدعو إلى "دراسة تطور الشيء في باطنه ومن حيث صلته بالأشياء الأخرى، وذلك بمعنى أنه ينبغي النظر إلى تطور الشيء على أنه حركته الباطنية والذاتية والحتمية، وأن كل شيء يرتبط في حركته بالأشياء الأخرى التي تحيط به ويتبادل معها التأثير. فالعلة الأساسية في تطور الشيء إنما تكمن في باطنه لا خارجه، في تناقضه الباطني. وهذا التناقض الباطني موجود في كل الأشياء، وهو الذي يبعث فيها الحركة والتطور.".
لكن ماو، هنا، في هذا النص، لم يفسر لنا كيف نشأت هذه الأشياء، التي يتحدث عنها وعن تطورها الباطني، في انطلاقتها الأولى في الطبيعة، التي نعرف جميعا أنها موطن هذه الأشياء، كما هو الشأن بالنسبة للإنسان، والتناقض الباطني في الأشياء، لم تولد دفعة واحدة، إنما هي نتيجة الصراع في الطبيعة، في تفاعلات مكونات المادة، من تكون الذرات الأولى، والجزيئات الأولى، والأجسام الأولى، في أشكلها المختلفة : الصلبة، السائلة والهوائية، وفي أشكالها الميتة والحيوية : نشوء المادة الحيوية، عند النبات والحيوانات، وفي أعلى تطور المادة الحيوية عند الإنسان، وكيف أن التطور لم يشمل الإنسان دفعة واحدة، بل يختلف تواتره بين المجتمعات البشرية، بشكل صارخ، ذلك ما جعل ماو يتكلم عن "المجتمعات المتخلفة"، ولكن دون أن يوضح لنا ماذا يقصد ب"التخلف"، هنا يظهر بوضوح المستوى الابتدائي في تعليم تعاليم الماركسية في كتاب "في التناقض".
لم يستطع ماو المغامرة في عمق الأشياء، في تناقضها الداخلية، التي سماها الباطنية "الأساسية" في التطور كما قال، ذلك أنه لم يستطع تجاوز خلاصات لينين في نقده للتجريبيين، في الخوض في المسائل العلمية، في العلوم الطبيعية، في العلوم الحقة، الدقيقة، في علاقتها بالديالكتيك الماركسي، في انعكاس المادة في ذهن العلماء الطبيعيين، بعد أزمة الفيزياء، التي جعلت العلماء الفزيائيين البرجوازيين، يرجعون بالديالكتيك المادي إلى الخلف، من ماركس إلى بركلي، من المادية إلى المثالية، وحسم لينين الصراع مع المثاليين الذاتيين، العلماء التجريبيين اللاعرفانيين، وطور الديالكتيك الماركسي إلى أعلى مستوياته : المذهب الماركسي اللينيني.
وفي كتابه هذا، "في التناقض"، يقوم ماو باستعارة بعض أقوال لينين، حول الديالكتيك، لكن دون أن يقول أنه قد تم تجاوزها، ودون أن يقر أنه طور الديالكتيك الماركسي إلى أعلى مستوياته، كما يقول "الماويون" اليوم، إن ما قام به ماو، باعترافه، في قول الناشر أن الغرض من هذا الكتاب، هو محاربة الفكر المثالي في صفوف مناضلي حزبه، الذي انتشر بشكل خطير في صفوفهم، وهذا الكتاب محاولة لتبسيط الديالكتيك الماركسي عند لينين، لكن ماو يقع في التناقض، حيث منهجه التبسيطي أوقعه في الأخطاء العلمية.
والخطأ الأساسي في فكر ماو، في هذا الكتاب، هو اعتقاده أنه يمكن تغيير الفكر المثالي، بإنتاج أفكار علمية مادية، مما أوقعه في المثالية الذاتية، حيث لا يمكن تغيير المجتمع، من باطنه، من داخله، دون تغيير الأساس الاقتصادي لهذا المجتمع، فمحاربة الأفكار الرجعية، لا يتم فقط بنشر الأفكار التقدمية، خاصة وأن المجتمع الصيني مجتمع شبه إقطاعي، مما يؤكد أن الحزب الشيوعي الصيني في 1937، لم يستطع بعد ربع قرن، نشر الماركسية في صفوف مناضليه، وذلك راجع ليس لنشر الأفكار البرجوازية المتسمة بالمثالية والرجعية فقط، كما جاء في الكتاب، إنما كذلك، لضعف تطور المجتمع الصيني.
إن الحركة الاجتماعية في تحولات دائمة مع وجودها في بنية معينة/نوعية معينة، هذه البنية التي، في تغيرها وتحولها تؤدي إلى التحول الكمي، الذي لا يمكن ملاحظته إلا عندما يصل إلى مستوى معين، الذي يتحول فيه التحول الكمي، إلى تحول نوعي ابتداء من مستوى المعين، ولا يحصل ذلك بكيفية تدريجية، بل يحدث في شكل قفزة نوعية، يبرز فيها التحول النوعي نتيجة التحول الكمي، الذي وصل إلى مستوى عال يحتم ضرورة التحول النوعي/الكيف، فالتحول الكمي للصناعة في القرن 17، عندما وصلة مستوى معين، حدث تحول نوعي/الكيف في الحياة الاجتماعية وظهرت الطبقة العاملة، وظهر معها الصراع الطبقي بين العمل والرأسمال، والحركة الاجتماعية يحكمها منطق الجدلية، بين العمل والنظر، الذي يحيلنا إلى الجدلية بين النظرية الثورية والممارسة الثورية، حيث نجد أن في كل حركة اجتماعية عمل ونظر، وفي كل نظر عمل ونظر، فالمفكرون المبدعون حينما يصنعون إبداعاتهم الفكرية، تصبح عملا ملموسا، الذي ينطلق من الفكرة إلى الإنجاز، كما أن في كل عمل نظر وعمل، حيث أن الفئات المحسوبة على العمل، أثناء إبداعها، تفكر وتعمل، وتنتج لعملها نظرا، في تفاعل دائم مع العمل، الذي يغني النظر وينفي التناقض في الحركة الاجتماعية، ولتطور العمل تأثير عظيم على تطور النظر، الذي يسعى إلى التوافق مع العمل، في حركة دائمة من أجل تطوير الحركة الاجتماعية.
وهكذا نرى أن وراء كل قفزة نوعية تحول كمي، كما هو الشأن عند التحول الذي وقع في مجال العمل الحرفي، الذي وصل إلى مستوى معين لبروز العمل المأجور، وبالتالي ظهور الطبقة العاملة، وظهور الرأسمال، كما أن وفرة السلع نتيجة تطور العمل الحرفي، أدى إلى بروز فائض في السلع، التي لا حاجة للإقطاع لاستعمالها، والتي تم تحويلها إلى بضائع يتم تجارتها في الأسواق، وظهر بذلك العمل التجاري، وبالتالي ظهور الرأسمال التجاري، ونرى كذلك أن الحركة الاجتماعية في تناقضاتها، التي تصل إلى مستوى معين، تكون في حاجة إلى الانتقال إلى بنية اجتماعية معينة عليا، كما أن أساليب الإنتاج في البنية الإقطاعية، قد تحولت بدخول الصناعة، مرحلة جديدة، مما حتم تطور التجارة، وأصبح من اللازم حدوث قفزة نوعية، من الحركة الاجتماعية ذات البعد الفيودالي، إلى الحركة الاجتماعية ذات البعد الرأسمالي، ومن الحركة الفكرية المثالية، إلى الحركة الفكرية المادية، فكان لا بد من إسقاط نمط الإنتاج الإقطاعي، وتغييره بنمط الإنتاج الرأسمالي، ذلك ما حدث في القرن 18، مع نجاح الثورة البرجوازية، وانتصار المفاهيم البرجوازية على مصالح الإقطاع.
هكذا وضع ماركس الديالكتيك الماركسي، من خلال دراسته لتاريخ تطور المجتمعات البشرية، عبر تطور الحركة الاجتماعية، التي أثرت على تطور الحركة المعرفية، من الديالكتيك الميتافيزيقي إلى الديالكتيك المادي، ومن الماركسية إلى الماركسية اللينينية، مع تطور الديالكتيك الماركسي إلى مستوى أعلى، من طرف لينين عبر أعماله، في جميع المستوياتا المعرفية : الفلسفية، السياسية، الاقتصادية، التنظيمية وبناء الوطن الاشتراكي.
رينا فيما سبق، كيف أن ماو، لم يجرؤ على الخوض في مسائل العلوم الحقة، الدقيقة، كما فعل لينين قبله، واكتفى بسرد بعض خلاصات لينين، محاولا تبسيطها، بهدف إزالة المثالية في تصورات مناضلي حزبه الشيوعي، خاصة في أوساط الشباب ـ هذا الكتاب عبارة عن محاضرة في الكلية الحربية والسياسية المناهضة لليابان في يانآن في 1937 ـ فهو إذن عبارة عن دروس تكوينية، لهذا لا يسمح له الوقت بأن يخوض في المسائل العلمية الحقة، فما بالنا بنقل قوانينها من الطبيعة إلى المجتمع، وهما مجالات مختلفان جذريا، إلا في المسائل المتعلقة بالقوانين العامة للحركة، في الطبيعة والمجتمع، في علاقة المادة بالحركة، هذا ما يمكن أن يبرر بساطة مضمون هذا الكتاب، واحتمال ورود الأخطاء فيه.
وفي أحد نصوص هذا الكتاب جاء ما يلي :"ومن الواضح أن الأسباب الخارجية الصرفة لا يمكن أن تؤدي إلا إلى الحركة الميكانيكية للأشياء، أي إلى تغييرات في الحجم والكمية، لكنها لا تستطيع أن تفسر لماذا تختلف الأشياء نوعيا ذلك الاختلاف الذي لا يمكن حصره، ولماذا يتحول الشيء من نوعية إلى أخرى. والواقع أنه حتى الحركة الميكانيكية المسببة عن القوى الخارجية تتحقق هي الأخرى بواسطة التناقض القائم باطن الأشياء."، إلى حد الآن لم يجرؤ ماو على السير بالتناقض إلى ما لا نهاية، مشارا فقط إلى أن التناقض موجود في العلاقة الخارجية للأشياء، من أجل حصر "التناقض الرئيسي"، كما سماه، في باطن الأشياء.
وهنا، يبخس ماو دور التأثيرات الخارجية على باطن الأشياء، ويقول أنها ليست أساسية، وهنا يقع في التناقض مع مضمون الديالكتيك، الذي يدحض وجود المطلق بعينه، كمطلق، دون علاقته بالنسبي، فكما قال لينين في كتابه "حول الديالكتيك" :"إن الذاتية (الريبية والسفسطائية، .. إلخ) تختلف عن الديالكتيك، فيما تختلف عنه، بما يلي، وهو أن الفرق بين النسبي والمطلق هو أيضا نسبي بنظر الديالكتيك (الموضوعي). فبنظر الديالكتيك الموضوعي يوجد مطلق في النسبي. أما بنظر الذاتية والسفسطائية، فالنسبي ليس سوى نسبي، وهو ينفي المطلق.".
وهنا، يقع ماو، في الذاتية والسفسطائية، لكونه يحاول تبسيط ما لا يمكن تبسيطه، إلا في حدود حصره في تناول حالة معينة، محددة، في مجال معين، في الطبيعة والمجتمع، في العلاقة بين المادة والحركة، دون أن يكون القانون الذي تم استخلاصه نهائيا، ونتائجه تكون نسبية، وعملية الديالكتيك فيه محددة، لا تتجاوز ما تم حصره، في الزمان والمكان، مع نوعية المؤثرات المحددة لذلك، كما يفعل الفيزيائيون عندما يحصرون نقطة معينة، في مستوى معين، أو مجموعة معينة من النقاط، لتطبيق قانون السرعة، في علاقتها بالمادة والحركة، دون أن ينسوا، أن نتائجهم نسبية إلى حد ما، هذا في مستوى الميكانيك، أما على مستوى الكوانتوم، فالنسبية ترتفع، لكون الأشياء لا ترى بالعين المجردة، وفي حالات أقصى، لا ترى أبدا، إنما يتم تخيلها، وتطبيق قانون التناقض عليها، باعتباره قانونا موجودا في الطبيعة، كما هو الشأن في سرعة الضوء، التي أبهرت علماء العلوم الطبيعية.
إن ماو، ومن خلال هذا الكتاب، لم يدرس أبدا العلوم الحقة، حق قدرها، خاصة الفيزياء، ونظرية الكوانتوم، التي تناولها لينين في نقده للتجريبيين، هذه النظرية التي أحدثت أزمة في الفيزياء، وغيرت التفكير من النظرة الميكانيكية للأشياء، والمادة، إلى النظرة النسبية لمعارفنا عن العالم، هذا على مستوى العلوم الطبيعية، أما على مستوى علم الاجتماع، فالماركسية أعطت إجابات صحيحة لهذه الأزمة، التي أدخلت التشويش في ذهن علماء الفيزياء البرجوازيين، فما بالنا بجماهير العمال والفلاحين الفقراء بالصين، ذلك ما جعل النظرة إلى العالم لذا أساتذة العلوم الطبيعية، وخاصة الفيزيائيين، تتسم بالمثالية الذاتية، لعدم قدرتهم على استيعاب الديالكتيك الماركسي، هنا جاء دور لينين، الذي نور العلماء الطبيعيين بروسيا الاشتراكية، مما ساهم في تطور النظرة العلمية لديهم، وأنتجوا أعمالا علمية عظيمة، الشيء الذي ساهم في تطوير الصناعة بالاتحاد السوفياتي.
أما في المجتمع، فالنسبية في هذه النتائج، تكون جد مرتفعة، ذلك ما أبهر ماو، عندما لاحظ أن مناضلي حزبه، لم يستوعبوا مضمون الديالكتيك الماركسي، فحاول في محاضرة اختزال ما يمكن اختزاله، في مضمونه المادي، وحصره في قانون التناقض، الذي بدوره حاول اختزاله، وحصره في بعض مقولات لينين، محاولا تطبيقها على العالم، لكن بشكل بسيط، حيث ذهب بعملية الديالكتيك، محاولا تطبيقها، لكن على مستوى أدنى من تعاليم الماركسية، وفي تطبيقها على المجتمع، بنقل قانون التناقض من الطبيعة إلى المجتمع، لكن بشكل ناقص، ذلك ما يتناقض وتاريخ تطور الفكر البشري، من الديالكتيك البدائي لدى الهنود والإغريق، إلى نظرية النسبية عند إنشتاين، والعلماء الفيزيائيين البرجوازيين، وتصحيح أفكارهم من طرف لينين، هنا يبدو عمل ماو بسيطا، ففي 1937، لما قطعت نظرية النسبية أشواطا في التطبيق والنقد، والتناقض بين المثالية الذاتية، التي أحدثتها، والديالكتيك الماركسي، مازال ماو يعطينا أمثل من عهد اليونان القديمة، وقوله :"فالبيضة تتبدل في درجة حرارة ملائمة فتصير كتكوتا، ولكن الحرارة لا تستطيع أن تحول حجرا إلى كتكوت، لأن كل منهما أساسا يختلف عما للآخر."، إنما يدل على هذه البساطة، والتعامل الساذج مع الآخرين.
ومقارنة "البيضة" ب"الحجر"، لا يمكن نعته إلا بالسذاجة في التفكر، حيث لا مقارنة بين الجسمين، بين المادة الحيوية، والمادة الصلبة، وهنا يمكن أن نتحدث عن المطلق، في الهدف الذي وضعه ماو، لكن في قانون التناقض، يمكن أن نبين أن في كلتي الحالتين يوجد تناقض داخلي، فقانون التناقض يسري على المادة في علاقتها بالحركة، والحركة تختلف من مجال إلى مجال، من جسم إلى آخر، حسب الزمان والمكان، والشروط المحيطة به، فعامل الحرارة يؤثر في البيضة والحجر معا، لكن النتائج هي التي تختلف، ذلك ما يريد ماو تفسيره، لكن يبقى، تفسيره محصورا في مستوى أدنى من الديالكتيك، حيث لم يدفع به إلى أعلى مستوى، وهو أن الحجر يمكن أن يذوب في مستوى عال معين من الحرارة، كما أن البيضة لا تعطي دائما كتكوتا، إلا في شروط معينة، وهي أن تخضع أولا للتلقيح، في علاقة ذلك بمدة زمنية معية، ومحددة، قبل تعرضها للحرارة، وفي شروط ثانوية أخرى، أن لا يمسها جرثوم في مدة تعرضها للحرارة، فهل تلقيح البيضة مسألة ثانوية ؟
فبدون تلقيح البيضة، لا يمكن الحديث عن التناقض الباطني في البيضة، الذي يعطي الكتكوت، هنا تكمن سذاجة استعمال البيضة من طرف ماو، لتفسير التناقض الباطني، الذي يرجع بنا إلى سؤال أصل العالم، لا ما يجري في العالم، إلى أصل المادة الحيوية، وهنا يكمن الفرق بين الديالكتيك الماركسي عند لينين، في انتقاده للتجريبيين، وبين ديالكتيك ماو في مستوى أدنى من المعرفة الساذجة.
وإذا أردنا الدفع بالديالكتيك إلى مستوى عال، انطلاقا من مثال ماو حول "البيضة"، يمكن أن نطرح السؤال الرائج في الأوساط الشعبية : هل الدجاجة سابقة أم البيضة ؟ للجواب على هذا السؤال، ننطلق من كون البيضة الملقحة هي التي تعطي الكتكوت، وبما أن التلقيح يجري بين كائنين حيويين، فإن وجود كائنين أولين، أو مجموعة من هذه الكائنات، على مستوى الخلايا الحيوية، ذات صفة الذكورة، وذات صفة الأنوثة، في المجال الطبيعي الحيوي، كما هو الشأن في جميع الكائنات الحية، بعد نشوء عالم المادة الحيوية، وتلقيحهما، بازدواجهما، في وحدة، تسمى بيضة، يحكمها التناقض، في ظل صراع الضدين، كما أوضح لينين ذلك في كتابه "حول الديالكتيك"، ولا يمكن أن نتحدث عن التناقض الباطني، الداخلي، بدون ازدواج الاثنين، خلية الذكر وخلية الأنثى، في مثال البيضة، ولكن أين يكمن "التناقض الأساسي" هنا ؟ التناقض هو قانون، يحكم الضدين أينما تواجدا، في ظل الوحدة، في الطبيعة والمجتمع، ما هو أساسي وثانوي هو الصراع بين الضدين، لكن هذا كما رأينا سابقا، يحكمه ما يحكم المطلق والنسبي، العام والخاص، في جميع الأشياء، وفي الصراع في المجتمع، وفي مستوى عال للصراع في المجتمع : الاستراتيجي والتكتيك، في عملية الجدلية بينهما، ففي النسبي مطلق، وفي الخاص عام، وفي التكتيك استراتيجي ...إلخ.
وهنا لا أعتقد أن ماو، في هذا الكتاب، يسعى إلى تطوير الديالكتيك الماركسي، بقدر ما يريد تبسيطه حتى يكون في متناول أعضاء حزبه، الذين تشوب تصوراتهم النظرة المثالية للعالم، وما يجري في الحركة الاجتماعية، يجري في الحركة المعرفية.
ونرى على مستوى قانون التناقض، فقد توصل كانط إلى مفهوم التناقض وسماه الجوهر النهائي، ، لكنه لم يدفع به إلى مستوى عال، إلى الديالكتيك، وانطلق هيغل من التناقض عند كانط، وانتقد هذا المفهوم، وأسس مفهوم الصيرورة الجدلية : العلاقة بين الأشياء سبقت وجودها، أي قانون التناقض، وهو أساس تكوين الأشياء، في العلاقة داخل الأشياء، وليست خارجها، ولا خارج الأشياء فيما بينها، وهو التناقض بداخلها، الذي يعتبر جوهر كل شيء، وانتقد ماركس مفهوم التناقض عند هيغل، لكونه صاغه داخل الفكرة المطلقة، وهو مفهوم مثالي، وأخرج جدلية هيغل من الفكر إلى الواقع، انطلاقا من الواقع الملموس، من الجدلية المثالية إلى الجدلية المادية، وصاغ مفهوم التناقض التناحري، وهو جوهر الحركة، الذي يجعل أحد الضدين ينفي الآخر في وجوده وليس في تماثله، كما هو الشأن في الصراع الطبقي.
ولا يعتبر ماركس الدولة حلا للتناقضات الاجتماعية، كما أقر هيغل في مفهومه للتناقض، بل هي مجال لصراع الضدين، في ظل قانون النفي ونفي النفي، تنتهي بالقضاء على أحد الضدين المتناحرين، وفي نفس الوقت يولد تناقض تناحري جديد في ظل صيرورة جدلية جديدة، والجوهر ليس شيئا ثابتا، بل هو معطى متحرك.
نرى فيما سبق كيف تحول مفهوم التناقض، عبر عملية النفي ونفي النفي، من مفهوم كانط، مرورا بمفهوم هيغل، وصولا إلى مفهوم ماركس، من الجوهر المطلق، مرورا بالفكرة المطلقة، وصولا إلى المادية، من اللاعرفانية، مرورا بالمثالية الذاتية، وصولا إلى الديالكتيك الماركسي، الذي طوره لينين، بالدفع به إلى الأعلى، في نقده للعلماء التجريبيين، الذين يريدون تجاوز الماركسية، باسم تطويرها، فسقطوا في اللاعرفانية.
ودفع لينين بنفي النفي، في صراعه ضد الإمبريالية، وبناء أول مجتمع اشتراكي، تقوده البروليتاريا بقيادة حزبها الثوري، لكن ليس بشكل مطلق، بل في ظل صراع الضدين، حيث لم يتم نفي الإمبريالية بشكل نهائي، بل بقي الصراع بين الضدين متواصلا، على المستوى العالمي، الذي قاده ستالين بعده، في العلاقة التناقضية، بين الاشتراكية والإمبريالية، بعد انتصار الاتحاد السوفييتي الجزئي على الإمبريالية، وبناء الوطن الاشتراكي، وفي ظل وجود مجتمعات مضطهدة، ومن بينها المجتمع الصيني، الذي حاول ماو، قيادة حرب التحرير ضد المستعمر الياباني، بقيادة حزبه الشيوعي، الذي تعوقه البنية الاجتماعية، ذات الأسس ما قبل ـ رأسمالية، مما طرح أمامه إعادة بناء مفهوم النظرة العلمية المادية إلى العالم، في ظل سيطرة الإمبريالية اليابانية، التي دخلت الحرب الإمبريالية العالمية الثانية في 1939، سنتين بعد كتابة هذا الكتاب، وامتدادات الحرب في أوج الصراع بين الاشتراكية والإمبريالية، وانتصار الاتحاد السوفييتي الجزئي على الإمبريالية بقيادة ستالين في 1945، في الوقت الذي مازالت فيه الصين تعيش التناقض الداخلي واستمرار الحرب من أجل السلطة، والتي لم يتم حسمها جزئيا إلا في 1949، ليبرز تناقض جديد أمام الحزب الشيوعي الصيني.
وفي هذا الجزء الأول من الكتاب بعنوان "نظرتان إلى العالم"، تتضح في طرحه، البساطة في الأسلوب وتناول مسألة التناقض، كما أشرنا إلى ذلك سابقا، حيث لم يستطع ماو الغوص في ديالكتيك القضايا العلمية في العلوم الطبيعية، العلوم الحقة، كما فعل لينين في 1916، خلال الحرب الإمبريالية الأولى، وسنة بعد وضع كتاب "في التناقض"، وفي 1938، عرفت العلوم الفيزيائية تطورا هائل، على مستوى تفاعلات مكونات الذرة، خاصة ذرة اليورنيوم، عبر تأثير امتصاص النوترون من طرف نواة اليورنيوم، الذي يؤثر على نواته، ويقسمها إلى جزأين، مما ينتج عنهما إشعاع هائل، يؤدي إلى انفجار عظيم، بملايين درجات الحرارة، التي تحرق الأخضر واليابس : نواة القنبلة الذرية، التي تم إسقاطها على اليابان في غشت 1945، التي وضعت حدا للحرب الإمبريالية الثانية، وللحرب الإمبريالية اليابانية على الصين، دون أن ننسى دور الاتحاد السوفييتي الذي واجه الجبهة الغربية في الحرب، وفي نفس السياق، في مسألة التناقض في الطبيعة، والتحكم في هذا التناقض من طرف العلماء الفزيائيين، نطرح السؤال التالي : هل تقسيم الواحد هنا إلى اثنين تم عبر التناقض الباطني فقط ؟ أم أن دخول جزء خارجي هو الذي أحدث هذا التحول الكبير ؟ مما أدى إلى تقسيم الواحد إلى اثنين، وإحداث افجار هائل وغير مجرى الحروب الإمبريالية ؟
في نفس السياق، وفي مسألة التناقض، هل تقسيم الواحد إلى اثنين يتم عبر التناقض الباطني فقط ؟ أم أن دخول جزء خارجي هو الذي يحدث هذا التحول الكبير ؟ مما يؤدي إلى تقسيم الواحد إلى اثنين، وإحداث انفجار هائل وقام بتغيير مجرى الحروب الإمبريالية ؟ وهل يبقى التناقض الباطني أساسيا بشكل مطلق ؟ أم أن صفته الأساسية تبقى نسبية ؟
إن عملية الانفجار تلك، وتسمى هذه العملية انفلاق Fission، التي تتم عبر تأثير امتصاص النوترون الذي يؤثر على نواة هذه الذرة، لكن ليس كل ذرة إنما هي ذرة اليورنيوم، التي تنقسم إلى جزأين غير مستقرين، واثنين أو ثلاثة نترونات مستقلة، مما ينتج عنه إشعاع هائل، قد غير مجرى الحروب في العالم في الواقع الموضوعي للمجتمعات البشرية، هذا التحول الذي حدث أولا في مستوى الطبيعة، على مستوى تطور العلوم الطبيعية وتأثيرها على تطور الحروب الإمبريالية والثورية على السواء، فهل ما زالت نظرية ماة حول حرب التحرير الشعبية قائمة ؟ أم الحروب الوطنية الثورية تكتسي صبغة الحروب الأهلية ؟ ذلك ما يمكن أن نراه في دراسات مقبلة في شأن مسألة الثورة والحروب الثورية.
وقد يتحول هذا الإشعاع إلى طاقة هائلة، في التناقض بين إيجابية الإشعاع وسلبيته، في التناقض بين الضدين، في ظل الوحدة، كما أنه كلما تم امتصاص نترون من النترونات المستقلة، كلما حدث انشتار وانفجار، وهكذا إلى نهاية عملية امتصاص النترونات، كما وقع في حالة القنبلة النووية A، حسب ارتفاع سرعة امتصاص النترون، وحسب انخفاض سرعة الامتصاص، يتحول الإشعاع إلى طاقة هائلة، غرام واحد من اليورانيوم يعطى أكثر مما يعطيه إحراق عدد كبير من أطنان الفحم الحجري.
حسب الديالكتيك، في المطلق نسبي، وفي النسبي مطلق، ونحن لا نريد، هنا، أن نؤكد ما إذا كان التناقض الباطني هو الأساسي أم لا، بقدر ما نريد أن نؤكد أن، في كل ما هو أساسي، يوجد ثانوي، وأن الثانوي يتحول إلى أساسي، حسب نوعية الصراع، مستواه، ودرجة تطوره، فكما يتحول النسبي إلى مطلق، في درجة معينة، حسب أهميته في عملية الصراع، فإن الثانوي يصبح أساسي، في مستوى معين من الصراع، وهكذا يكون الديالكتيك الماركسي، من العام إلى الخاص، وفي الخاص يوجد العام، وتناول التناقض في هذا المثال، يعتبر مستوى عال من الديالكتيك، في الطبيعة، في المادة، في الحركة داخل المادة، ويمكن نقله من الطبيعة إلى المجتمع، كما لا يمكن حصره في هذه النقطة بالذات.
وكما قال لينين :"يستطيع التفكير البشري بحكم طبيعته أن يعطينا وهو يعطينا الحقيقة المطلقة التي تتكون من مجمل الحقائق النسبية. وكل درجة في تطور العلم تضيف ذرات جديدة إلى مجمل الحقيقة المطلقة هذه، ولكن حدود حقيقة كل موضوعة علمية هي حدود نسبية لأنها تتسع تارة وتضيق طورا من جراء نمو المعرفة اللاحق."، وبعد كل نتيجة علمية، يطرح تساؤل، يعطينا اطلاقة جديدة، للتفكير في المسائل العلمية المستقبلية، التي يستمر العلم بالخوص فيها، إلى حين الوصول إلى نتائج جديدة متطورة، متقدمة على ما سبقها من نتائج، ذلك ما لم نلمسه في كتاب "في التناقض".
لقد سبقت مضمون هذا الكتاب، نتائج أعمال لينين الغزيرة، العميقة والمتطورة إلى حد بعيد، يمكن اعتمادها، كانطلاقة علمية جديدة في علم الديالكتيك، في عصر الإمبريالية، بكونها استنتاجات عامة، تضم إلى حد بعيد، المسائل الخاصة، بالتطور في مجال الصراعات الطبقية، التي حاول ماو في كتابه هذا، الإحاطة بها، لكن بشكل لم يضف أي جديد لاستنتاجات لينين، بقدر ما قام بتبسيطها، لكن في تبسيط ما لا يمكن تبسيطه، في حقل العلم، علم الديالكتيك، أرقى ما يمكن أن تصل إليه المعرفة البشرية، باعتباره مفتاح جميع الاشكاليات العلمية، المطروحة في الطبيعة والمجتمع.
إذا كانت عملية انفلاق Fission، تعطينا انفجارا هائلا، فإن عملية انصهار Fusion، تعطينا انفجارا أقوى بكثير، ذلك ما توصل إليه علم الفيزياء النووية، من اكتشاف جد متقدم : القنبلة الهيدروجينية Bombe H، التي تتم عبر ثلاث عمليات متتالية : انفلاق ـ انصهار ـ انفلاق Fission-Fusion-Fission، مما يحدث انفجارا يبلغ تأثيره مستويات عالية جدا، حدود دائرة شعاعها يصل إلى 100 كلم، وتبلغ فيه الحرائق الدرجة الثالثة، وتم تفجيرها في 1952.
والمفارقة بين العمليتين أن الأولى تتم على مستوى الذرة الثقيلة، لكن مفعولها يكون أقل بكثير من العملية الثانية، التي تتم على مستوى الذرة الخفيفة، وهنا يحدث تناقض هائل بين العمليتين في مستوى التفاعل الحراري، وكيف يكون هذا التفاعل هائلا على مستوى ذرة الهدروجين الخفيفة، أقوى من التفاعل الحراري على مستوى ذرة اليورنيوم رغم حجمها الثقيل من ذرة الهيدروجين، وهنا تكمن أهمية التأثيرات الخارجية على التناقض على مستوى الطبيعة، فكيف يمكن بلورتها على مستوى المجتمع ؟ ذلك ما سنراه في مسأة الثورة والحروب الثورية.
لا نستعرض هنا، نوعية الأسلحة النووية، إنما نستعرض عملية التناقض، في مستوى عال، وهنا نشير إلى أن الصين فجرت أول قنبلة نووية في 1964، لكن هذا لا يعني أن امتلاك القنبلة النووية، يعني تطور المجتمع الصيني، إلى مستوى تطور العلوم الطبيعية، خاصة علوم الفيزياء، فكيف يمكن ترجمة تطور العلوم الطبيعية إلى علوم الاجتماع ؟ عبر الماركسية طبعا، عبر الديالكتيك الماركسي، الذي طوره لينين إلى مستوى عال، المذهب الماركسي اللينيني، ليس عبر تلقينه، إنما عبر تطوير القوى المنتجة، ذات الصفة الثورية، لتحطيم علاقات الإنتاج القديمة، من الرأسمالية إلى الاشتراكية.
إن ما يسمى في علوم الحرب الحديثة بوسائل الدمار الشامل، وتطورها كما شاهدنا فيما سبق، لا يمكن إهماله في شأن التطور الاجتماعي، ذلك ما قامت به روسيا، الصين، الهند، باكستان وكوريا الشمالية، التي امتلكت السلاح النووي، وأصغر هذه البلدان كوريا الشمالية، لكن ذلك لا يعني بالضرورة، أن هذه البلدان في مستوى واحد من التطور الاجتماعي مع بلدان متقدمة أخرى، رغم أنها شبه متساوية في مستوى التطور التكنولوجي في مجال الصناعة النووية، فرغم أن اليابان لم تمتلك هذه الوسائل المدمرة، إلا أنها في مستوى عال من التطور الاجتماعي، كما هو الشأن بالنسبة لسويسرا والدول الإسكندنافية، نتحدث هنا عن مستوى العيش وتطور العلوم، لكن يبقى النظام المهيمن في مجمل هذه البلدان، هو الرأسمالية الإمبريالية، فهذه البلدان جميعها في وحدة مع أمريكا والدول الأوربية الأخرى، مع التفاوت في التطور على مستوى الدولة الاحتكارية، في ظل التناقض الداخلي، في الصراع في ظل هيمنة الرأسمال المالي العالمي، على السوق التجارية العالمية، حول تقسيم العمل، حول السيطرة على باقي البلدان المضطهدة، شبه المستعمرة، المستعمرة بشكل غير مباشر.
إن ما أرهق ماو في مرحلة الصين شبه المستعمرة، شبه الإقطاعية، خلال الحرب الوطنية الثورية، في 1937، التناقض الداخلي في المجتمع الصيني، قد عرف تطورا هائلا، اليوم أصبحت الصين في الصفوف الأولى للدول الإمبريالية، لكنها في ظل دولة تضطهد الطبقة العاملة بالصين، في ظل الاستغلال الرأسمالي، في نفس الوقت الذي تقوم فيه دولة الصين الاشتراكية الإمبريالية، باستغلال البلدان المضطهدة بإفريقيا، محاولة أن تقوم مقام فرنسا الاستعمارية، بشكل من الأشكال، في ظل الاستغلال الرأسمالي، فأين وصل التناقض الباطني اليوم في المجتمع الصيني ؟ ذلك ما يمكن أن نعالجه، على ضوء قانون التطور اللامتكافئ في النظام الرأسمالي، الذي اكتشفه لينين، كأحد القوانين الأساسية في الرأسمالية، باعتبارها نظاما تناحريا، كما أقر ماركس ذلك.
كان هيغل يعتقد أن الصيرورة التاريخية محددة مسبقا، وأن حركة الصيرورة الجدلية يحكمها نفي النفي الضروري، في علاقته بالضرورة التاريخية، وأكد ماركس وجود نفي النفي، لكن باعتباره أحد الحلول الممكنة، حيث يمكن أن يكون الحل حسب نفي النفي أو عكسه، النفي، ذلك ما جعل هيغل يقول بالضرورة التاريخية الموجودة مسبقا، نتيجة تفسيره المثالي، وبذلك أسس ماركس القانون الأساسي الثاني وهو النفي ونفي النفي، وهنا يمكن أن نقول أن ماو في تصوره لتطور المجتمع الصيني، قد ذهب مذهب هيغل.
القانون الأساسي الثاني، في عملية تطور المجتمعات البشري : النفي ونفي النفي، يمكن أن يساعدنا على فهم التناقض الداخلي في المجتمع الصيني اليوم، وكيف استحال نفي النفي إلى ضده، في سيرورة الثورة الصينية، بتركيز الرأسمال المالي في المجتمع الصيني، إلى مستويات عليا، تحول فيها اليوم حزب ماو الشيوعي، إلى الحزب الشيوعي الإمبريالي، أي الشيوعي قولا، والإمبريالية فعلا، كما قال لينين.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire