في التناقض بين الإصلاحية والثورة



عمل لينين على دحض مزاعم التحريفية الانتهازية حول تفوق المفاهيم البورجوازية على التصورات الماركسية اللينينية، واتخذ التحريفيون الانتهازيون هذه المفاهيم لشن حربهم ضد النضال الطبقي الذي حاولوا تعويضه بممارسة "الحرية السياسية" و"الديمقراطية" و"الاقتراع العام"... ونفوا صفة السيطرة الطبقية على الدولة، وجعلوا من البورجوازية والاشتراكية الإصلاحية حلفاء ضد الرجعية ما دامت الديمقراطية تتيح المجال لإرادة الأغلبية حسب زعمهم، وهم في دعايتهم لمفاهيم البورجوازية ينسون أن هذه المفاهيم معروفة منذ أمد طويل ولا يمكن للبرلمانية البورجوازية أن تقضي على الطبقات. والتحريفيون الانتهازيون يعتقدون أن الطبقات ستزول عندما يتمتع "المواطنون" ب"حق التصويت" وب"حق المشاركة في تسيير شؤون الدولة"، وتاريخ الثورات الأوربية خلال النصف الأخير من القرن 19 والثورة الروسية في بداية القرن 20  يكذب أقوالهم هذه، وأكد أن "المساهمة في تنظيم جزء من الجماهير في ظل البرلمانات البورجوازية في الجمهوريات الديمقراطية البورجوازية لا يزيل الأزمات والثورات السياسية في المجتمعات الرأسمالية".
وأكد لينين أن النزعة التحريفية ظاهرة عالمية تستقي جذورها الطبقية من المجتمع المعاصر الذي تسود فيه الرأسمالية بكونها نظاما تناحريا يحتوي على الطبقة الوسطى، فإلى جانب الطبقة البروليتارية توجد مختلف فئات البورجوازية الصغيرة خاصة صغار أرباب العمل الذين تعتبرون عماد الإنتاج الصغير الذي انبثقت منه الرأسمالية ولا زالت تنبثق منه إلى يومنا هذا، والرأسمالية تعمل على خلق فئات جديدة من البورجوازية الصغيرة تعتمد عليها لتجديد نفسها والتي ينتظرها حتما العصف بها إلى صفوف البروليتاريا عندما تشتد أزمتها، وهذه الفئات تكون قائمة في أطوار الثورة البروليتارية حيث لا يمكن تحويل غالبية السكان إلى بروليتاريا لكي تتحقق الثورة، "إنما ورد على مستوى هذه الأفكار هو حصر الخلافات التكتيكية مع التحريفيين الانتهازيين على مستوى الحركة العمالية من أجل تحديد التكتيك المناسب والتحالفات المناسبة" كما يقول لينين.
لهذا نادى لينين إلى التحالف بين البروليتاريا والفلاحين الصغار والفقراء من أجل إنجاز الثورة الديمقراطية البروليتارية.
لقد صاغ لينين نظرية الحزب الثوري ببلورة المفهوم الثوري للحزب في كتابه "ما العمل؟" وأسس الحزب البلشفي الثوري الذي قاد الثورة الديمقراطية البروليتارية في أكتوبر 1917، و قاد نضالا مريرا ضد التحريفية الانتهازية في الأممية الثانية وداخل الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي، واستفاد كثيرا من الثورة الأولى بروسيا في 1905 لترسيخ نظرية الحزب الثوري بعد انقسام الحزب الاشتراكي الديمقراطي الروسي إلى بلاشفة ومناشفة، حيث تراجعت جميع الأحزاب عن النضال الثوري بعد هزيمة الثورة إلا الحزب البلشفي صمد في وجه قمع القيصرية للمناضلين الثوريين، في الوقت الذي ساد فيه التراجع عن المبادئ الثورية داخل جميع الأحزاب اليسارية.
لقد شكلت هذه الفترة لحظة الفصل بين الأزمة الفكرية للبورجوازية الصغيرة المثقفة التي يسيطر عليها الفكر التحريفي الانتهازي والنضال الثوري البروليتاري بقيادة البلاشفة، وككل مرحلة ما بعد أزمة ثورة يعيش الفكر الذي ينبثق عن هذه الأزمة انحطاطا صارخا إلا الفكر الثوري.(1) لقد تعلم لينين دروسا عظيمة في فشل هذه الثورة واستخلص منها عبرا عظيمة من أجل البناء الحقيقي للحزب الثوري ورسخ أسسه النظرية، وذلك من خلال العلاقة الجدلية بين السرية والعلنية، بين العمل الثوري للمحترفين الثوريين والعمل الجماهيري للمنظمات العمالية، وكانت نتائج هذه الثورة من جهة أخرى عظيمة حيث أرغمت القيصرية على الاستعجال بالقضاء على جل مظاهر ما قبل الرأسمالية، مما فرض البناء الديمقراطي البورجوازي للدولة القيصرية الشيء الذي ساهم في إبراز الصراع الطبقي بشكل واضح، وأول درس في الحرب مع البورجوازية استخلصه لينين هو كيف تعلمت البروليتاريا قبل الثورة كيفية الهجوم وتعلمت بعد فشل الثورة كيفية التراجع الصحيح.(2)
وكان الحزب البولشفي هو الوحيد الذي استطاع الخروج من هزيمة الثورة قويا عكس الأحزاب التي تقودها التحريفية الانتهازية، وانتصر البلاشفة على المناشفة الذين استغلتهم القيصرية ضد الثورة منذ 1905 كعملاء للبورجوازية داخل الحركة العمالية، وكان انتصار البولشفية نتيجة تاكتيك استعمال فن العلاقة الجدلية بين السرية والعلنية، واستطاع البلاشفة بذلك احتلال جميع المقاعد العمالية بالدوما الرجعية.
واستفاد لينين من حوادث "لينا" التي تم فيها إطلاق النار على العمال المضربين في مناجم الذهب، التي نتج عنها التضامن العمالي الذي أسفر عن المظاهرات في الشوارع  والإضرابات والاجتماعات المنظمة في جميع أنحاء روسيا.
وقاد لينين نضالا مريرا ضد التحريفيين الانتهازيين داخل الأممية الثانية خاصة أثناء الحرب الإمبريالية الأولى التي كشفت زيف ادعاءاتهم التي يقودها كاوتسكي، وذلك بالدعاية للحرب باسم الدفاع عن الوطن في الوقت الذي يناضل فيه البرلمانيون البلاشفة بالدوما ضد الحرب مما دفع النظام القيصري إلى نفيهم إلى سيبيريا. وناضل لينين ضد المناشفة الذين اتخذوا الكولاك/الملاكين العقاريين حلفاء البروليتاريا ضد الرأسماليين ودافع عن التحالف البروليتاري مع الفلاحين الصغار والفقراء والبورجوازية الصغيرة الثورية.
وكان للحزب البلشفي دور هام في بلورة مفهوم النضال الثوري بالحد بين النضال الاقتصادي والنضال السياسي، بالحد بين المهام الثورية للمناضلين الثوريين المحترفين والنضال الجماهيري.(3)
وركز لينين في كتابه "بم نبأ؟" على أهمية العمل في الوقت نفسه، في جميع الجوانب ذات البعد الثوري، لبناء المنظمة التي يحتاجها الماركسيون اللينينيون، ولن يتم ذلك إلا ب"الانفصال التام عن الاقتصاديين" وأن الممارسة الثورية تتطلب منظمة المحترفين الثوريين الذين تكون مهمتهم الأولى هي الممارسة السياسية في إطار منظمة ثورية، وقد أجاب عن هذا السؤال في كتابه ما العمل؟ الذي تناول فيه مسألة حرية النقد باعتبارها الأسلوب الأمثل في متناول قضايا الإشتراكية ـ الديمقراطية، هذا الأسلوب الذي كثر الحديث عنه في أوساط المثقفين والمنابر السياسية والجامعية والذي يتخذ شكل النقد البورجوازي للماركسية، للسعي إلى بناء أحزاب ليست للثورة الاجتماعية ولكن أحزاب ديمقراطية للإصلاحات الاجتماعية.(4) وانتقد موقف برينتشتين هذا حول الحزب الثوري الذي يستهدف إلغاء دوره في الحركة الثورية من أجل الإشتراكية انطلاقا من نقده لموقفه من المادية التاريخية التي لا يرى فيها برينتشتين أساسا للنظرية الثورية، مما جعله يتنكر لفكرة ديكتاتورية البروليتاريا والصراع الطبقي والتنافض بين الليبرالية والاشتراكية سعيا إلى إلغاء الثورة الديمقراطية البروليتارية، هذا الموقف من الحزب الثوري جعل برينتشتين يركز هجومه على الماركسية بخلق اتجاه معاد للدياليكتيك الماركسي.(5)
وهكذا فتح برينتشتين الباب للنقد البورجوازي في أوساط الماركسيين باسم "حرية النقد" التي لا تعني لدى التحريفية الانتهازية إلا "حرية الاتجاه الانتهازي" من أجل بناء أحزاب إصلاحية، "حرية إدخال الأفكار البورجوازية على الماركسية" من أجل إدخال "العناصر البورجوازية" على الاشتراكية، لتكريس استغلال الرأسمال للعمل، حرية الصناعة التي تنشر حروب النهب والسلب ونهب الشغيلة باسم حرية العمل، من أجل تحويل الحركة العمالية الثورية إلى "ذيل لليبرالية" وتركيز مفهوم الاقتصادية في صفوفها من طرف البرينتشتينيين، في أفق دمج المثقفين الماركسيين مع الليبراليين في العمل السياسي البورجوازي الذي يحارب النقد الماركسي للرأسمالية.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1)كتاب: المادية والمذهب النقدي التجريبي.
(2) ضد الجمود العقائدي والانعزالية في الحركة العمالية.
 (3)كتاب: ما العمل؟
(4)نفس المرجع.

(5)نفس المرجع.

Aucun commentaire: