دياليكتيك الجوهر والظواهر بين المادة والنظر


في نهاية القرن 19 عاشت الفيزياء أزمة خانقة نتيجة الاكتشافات الجديدة في مجال العلوم الطبيعة المتسمة بصفة الثورة الفيزيائية التي دحضت استنتاجات الفيزياء الميكانيكية، وأصبحت الماركسية محط انتقادات الفيزيائيين الجدد بعد انبهارهم بثورة الراديوم على الميكانيكا محاولين دحض أطروحات إنجلس حول "المادة"، وذلك بمقارنة الاكتشافات الحديثة في الفيزياء مع مضامين كتاب "ضد دوهرينغ" خاصة مقولته "لا حركة بدون مادة" و"الحركة هي شكل وجود المادة"، ساعين إلى الوصول إلى نفي المادة بقولهم ب"زوال المادة" مقابل "بقاء الطاقة"، من أجل "التهكم على روح المادية الدياليكتيكية".(1) وعكس ادعاءات الفيزيائيين المعاصرين فقد أعطت الثورة الحديثة في الفيزياء لاستنتاجات إنجلس العلمية بعدا أدق وأصح.(2) ومما سبق، يتضح أن على الماركسية أن تغير شكلها وأن نعيد النظر في استنتاجات ماركس وإنجلس ولينين وستالين، لكن بأية صفة يمكن تطبيق مقولة إنجلس حول "تغيير الشكل".(3) ومحاولة البورجوازية دحض مقولة إنجلس الجبارة حول المادة ليس من باب تغيير الشكل إنما من أجل تحريفها وهذا ما يجب مقاومته، وقام لينين بهذا العمل بتطبيقه للدياليكتيك الماركسي على المستوى الفلسفي مدافعا عن أطروحة إنجلس القائلة:"... الحركة غير ممكنة بدون المادة".(4)
وأوضح لينين وجود مدارس مختلفة بين الفزيائيين المعاصرين وصلة مدرسة من هذه المدارس بانبعاث المثالية الفلسفية، وبين كنه الخلافات بين المدارس الفلسفية المختلفة التي تكونت بعد الطفرة النوعية في مجال العلوم الطبيعية وخاصة الفيزياء. لقد أعلن الفيزيائيون عن أزمة العلوم الفيزيائية والتي تجلت في دحض استنتاجات الفيزياء الكلاسيكية، واتجه انتقاد الفلاسفة نحو الفيزياء في انتقادهم للعلوم الطبيعية محاولين ضبط مكامن هذه الأزمة وجوهرها، وقبل ذلك كان الفيزيائيون يؤمنون بالتفسير الميكانيكي للطبيعة ونمت بينهم النزعة الميكانيكية لفهم العالم الموضوعي، ولم يختلفوا إلا في أساليب التفسير الميكانيكي وأصبح لكل عالم ميوله الخاص بعد الاختلاف الحاصل حول جوهر تفسير المادة.
فيما قبل كانت الميكانيكا هي الأسلوب الأوحد الذي يمكن اتباعه للوصول إلى تحديد ميتافيزياء المادة، حتى أضحت نظريات الفيزياء الميكانيكية عبارة عن أنطولوجيا، وهذه النظرة كانت ميكانيكية صرفة إذ يعتقد الوضعيون أنه يمكن الوصول إلى ميتافيزياء المادة باتباع خطوات الفيزياء الميكانيكية، الشيء الذي يعتبر خروجا عن التجربة التي يؤمنون بها وبالتالي ما فوق التجربة، ويرى الفيزيائيون الوضعيون أن أزمة الفيزياء مؤقتة محاولين الاعتماد على روح الفيزياء المعاصرة لفهم العالم لكن بشكل ميتافيزيقي، بإعطاء الأولوية للروح على العقل.
يقول آبل ري :"الحركة الإيمانية و اللاعقلية في السنوات الأخيرة من القرن 19 "تسعى" إلى الاعتماد على الروح العام للفيزياء المعاصرة". (5) إن الوضعيين يجهلون كنه المادية التي وضعها ماركس وإنجلس والتي اعتمدها لينين في دحضه لنظرياتهم الخاطئة حول المادة، وهم يعتمدون خلاصات هيوم حول المعرفة وعلاقاتها بالإحساسات ويقعون في ورطة المثالية الذاتية، مما جعلهم يعتبرون المادية عقيدة وخارجة عن حدود التجربة بالخلط بين المادية الميكانيكية والمادية الميتافيزيقية، الشيء الذي جعلهم لا يستطيعون بيان الفرق بين الحقيقة المطلقة والحقيقة النسبية.(6) وجوهر أزمة الفيزياء المعاصرة في نظر لينين هو أن الفيزياء الميكانيكية اعتبرت نظرياتها "معرفة فعلية للعالم المادي"، أي أنها "انعكاس للواقع الموضوعي" الذي أكدته نظرية "الشيء في ذاته" عند إنجلس باعتبار أفكارنا صور للمادة في أذهاننا، وأن المادة موجودة دون إرادتنا والأشياء التي نسخرها بفضل المعرفة أي "الشيء من أجلنا" موجودة قبل اكتشافها.(7) أما الفيزياء المعاصرة فقد حولت نظرة الفيزيائيين إلى العالم الموضوعي وبرز تيار جديد "لا يرى في النظرية سوى رموز وعلامات وإشارات".(8)
وهكذا يستخلص لينين أن الفيزياء الكلاسيكية قد تبنت نظرية عرفانية مادية بشكل عفوي إلا أن أزمة الفيزياء المعاصرة قد حولت هذه النظرية إلى مثالية لا عرفانية، وهذا الانقلاب في التفكير لدى الفيزيائيين المعاصرين نتيجة أزمة الفيزياء المعاصرة نتج عن عدم استيعابهم للدياليكتيك الماركسي، وبالتالي سقوطهم في أخطاء علمية فادحة تجلت بالأساس في قولهم ب"المادة زالت" لجهلهم للدياليكتيك الماركسي الذي طوره لينين على مستوى المعرفة.
لقد أحدثت أزمة الفيزياء الجديدة صراعا بين الفيزيائيين المعاصرين بين من يناصر الميكانيكيا والمعارض لها، وقسم آبل ري الاتجاهات المذهبية بين الفيزيائيين إلى ثلاث مدارس أساسية:
ـ المدرسة الطاقية أو المفاهيمية.
ـ المدرسة الميكانيكية أو الميكانيكية الجديدة.
ـ المدرسة الانتقادية.
ويعترض لينين على هذا التقسيم حيث يرى أن الاتجاه الثالث يعتبر وسطيا ويأتي بين الأول والثاني باعتبارهما خطين أساسيين معارضين في العرفانية بحكم نظرة الوضعيين إلى أزمة الفيزياء، مما يتعارض حقا مع كنه الأزمة التي نتجت عن تحطيم القوانين القديمة والمبادئ الأساسية القديمة، وبالتالي "نبد الواقع الموضوعي القائم خارج الوعي"، وذلك باستعاضة الفيزيائيين المعاصرين عن المادية بالمثالية واللاعرفانية. وكان لأزمة الفيزياء الجديدة أثر كبير في الخلط الذي وقع فيه الفيزيائيون المعاصرون بالقول ب"المادة تزول"، انطلاقا من استنتاجاتهم حول خلاصات الفيزياء الجديدة حول الصلة بين الذرة والكهرباء عبر حركة الإليكترونات، مما أوقعهم في خطإ فادح وهو "الذرة تفقد ماديتها" كما قال ل. هولفيغ في كتابه "تطور العلوم"، والفيزيائي الإيطالي أوغست ريغي الذي قال عن النظرية الإليكترونية "هي نظرية الكهرباء أقل مما هي نظرية المادة، فإن النظام الجديد يحل الكهرباء محل المادة وحسب". هذا الخلط بين المادة والكهرباء ناتج حسب لينين عن عدم فهم "الصلة الفعلية بين المثالية الفلسفية و"المادة تزول". إن التناقض بين المادية والمثالية تناقض جوهري يتجلى في التعارض بين الاتجاهين المعارضين اللذين يحكمان أسس المعرفة بصفة عامة، كما حدد إنجلس ذلك في كتاب "لودفيغ فورباخ": "المادية والمثالية هما الاتجاهان الفلسفيان الأساسيان... إن المسألة الأساسية الكبرى في كل فلسفة ولا سيما في الفلسفة الحديثة... هي مسألة علاقة الفكر بالوجود، علاقة الروح بالطبيعة". ولكون معارفنا في علاقة جدلية باتجاهاتنا الفلسفية فإن مصدر معرفتنا يتحدد حسب هذا الاتجاه أو ذاك، حسب النظرة المادية أو المثالية للأشياء، والقول ب "المادة تزول" يعني حصر عالم الطبيعة في الكهرباء والأثير، واستخلص لينين من ذلك أن القول ب"المادة تزول" يقود إلى القول أن الكهرباء تقوم مقام المادة أي حصر المادة في الكهرباء، وبالتالي تزول "خواص المادة" التي تم اعتبارها فيما قبل مطلقة "الحركة غير ممكنة بدون مادة" كما قال إنجلس، والمادة حسب المادية الفلسفية موجودة خارج وعينا وهي الواقع الموضوعي، العالم الفيزيائي الموجود دون إرادتنا.(9)
إن الثورة في مجال العلوم الطبيعية وخاصة الفيزياء أحدثت أزمة معرفية لدى الفيزيائيين المعاصرين لكونهم يتجاهلون أسس المادية الفلسفية، فالاعتراف الذي حصل لديهم حول "جوهر الأشياء الذي لا يتغير" ليس إلا مادية ميتافيزيقية أي منافية للدياليكتيك.(10) وهذا الإقرار من طرف الفيزيائيين يحل المسألة لصالح المادية لكون المادة لا تعني في المادية الفلسفية غير "الواقع الموضوعي" الذي يوجد "خارج وعينا".(11) وفي مجال العلم تقر المادية الدياليكتيكية بنسبية كل موضوعة علمية، وهي كذلك تقر بعدم استقرار المادة في حالة واحدة وهي في تحول دائم في حركة دائمة من حالة إلى حالة منافية معها.(12) ويستنتج لينين من ذلك "أن الفيزياء الجديدة قد انحرفت إلى المثالية، وذلك بصورة رئيسية للسبب التالي على وجه الدقة، وهو أن الفيزيائيين لم يكونوا يعرفون الدياليكتيك". (13)
إن الوضعيين قد قادهم جهلهم هذا بالدياليكتيك الماركسي إلى إنكار "واقعية العالم الفيزيائي" وبالتالي إنكار "الخواص الثابتة للمادة"، وبالتالي انزلقوا إلى إنكار وجود المادة بقولهم "المادة تزول" وهم بإصرارهم على نسبية معارفنا فقد انزلقوا إلى إنكار "الموضوع المستقل عن المعرفة".(14) وعاش الفزيائيون المعاصرون في التناقض بين قوانين الفيزياء الميكانيكية واستنتاجات الفيزياء الجديدة، مما خلق لديهم أزمة معرفية حول كنه ما هو ثابت في الطبيعة وما هو متحول لكونهم يجهلون الدياليكتيك الماركسي، الذي يقر بثبوت شيء واحد فقط هو"عكس الوعي البشري (حين يكون الوعي البشري موجودا) للعالم الخارجي".(15) ولا يوجد في نظر ماركس وإنجلس أي "ثابتية" أخرى، أو أي "كنه" آخر، أو أي "جوهر مطلق" آخر، بالمعنى الذي يتصوره الفيزيائيون المعاصرون.(16)
إن الصراع القائم بين المتشبثين بخلاصات الفيزياء الكلاسيكية وغيرهم من المقتنعين بخلاصات الفيزياء الجديدة، إنما هو صراع بين الميول إلى المادية بشكل عفوي والنزعة المثالية الذاتية الحديثة، وكنه هذا الصراع ناتج عن جهل هؤلاء للمادية الفلسفية التي تقر بوجود المادة خارج وعينا عكس المادية الميتافيزيقية التي تقر بوجود المادة بشكل عفوي، والإقرار من طرف آبل ري بوجود الصنف الثالث من الفيزيائيين بين المدرسة المفاهيمية والمدرسة الميكانيكية الجديد، إنما ينم عن جهله للصراع بين المادية والمثالية كشكلين من الميولات الفلسفية المتعارضة ولا ثالث لهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش :
(1)                    المادية والمذهب النقدي التجريبي، الفصل الخامس: الثورة الحديثة في علم الطبيعيات والمثالية الفلسفية، ص 292.
(2)                    لودفينغ فيورباخ ، ص 16 من الطبعة الألمانية).
(3)                    المادية والمذهب النقدي التجريبي، الفصل الخامس: الثورة الحديثة في علم الطبيعيات والمثالية الفلسفية، ص 293.
(4) ضد دوهرينغ ، ص 50.  
(5) كتاب: نظرية الفيزياء عند الفيزيائيين المعاصرين، باريس 1907.
(6) نفس المرجع السابق، ص 151ـ152.
(7) نفس المرجع السابق
(8) نفس المرجع ص 298ـ299.
(9) المادية ونقد المذهب التجريبي ـ ص 301.
(10) نفس المرجع ص 304.
(11) نفس المرجع ص 304.
(12) نفس المرجع
(13)نفس المرجع ص 305.
(14) نفس المرجع.
(15) نفس المرجع.

(16) نفس المرجع ص 306.

Aucun commentaire: