اللاعرفانية في علاقتها بالتحريفية الانتهازية الحديثة


تعتبر مرحلة ماركس مرحلة تطوير المفهوم المادي للتاريخ والدياليكتيك المادي عبر عمله على مراجعة فلسفة هيكل، التي اعتبرها مهمة باكتشافها للصيرورة الجدلية لكنها بقيت حبيسة "الفكرة المطلقة" التي جعلتها ذات أبعاد مثالية، مما تطلب جعل الجدلية مادية وذلك بإخراجها من الفكرة إلى الواقع الملموس، وأسس الدياليكتيك الماركسي بعد إزالة صفة المثالية من جدلية هيكل منتقدا مفهوم الدولة عند هيكل، واعتبر "إنسان" فويرباخ إنسانا مجردا لأنه لم يعمل إلا على تغيير "الفكرة المطلقة" ب"الإنسان" دون الخروج من دائرة المثالية.
لقد قاد ماركس الصراع ضد المناهضين للديالكتيك المادي من البرودونيين واللاساليين الذين أثارهم المذهب الماركسي محاولين تحريفه، ووضع أسس الثورة الاشتراكية باعتبار الصراع الطبقي هو المحدد لحركة التاريخ، وقطع الصلة بالمثالية في صراعه ضد البورجوازية التي ترى في المثالية الملاذ الآمن من أجل استغلال الطبقة العاملة، حيث لم تستطع البورجوازية التخلص من أوهام المثالية. ويقول ماركس عن الثورة الاشتراكية في القرن 19:"إنها لا تستطيع أن تبدأ بنفسها قبل أن تصفي نهائيا كل خرافة ووهم حيال الماضي، إن الثورات السابقة كانت في حاجة إلى ذكريات التاريخ لكي تخفي عن نفسها محتواها".(1)
وعمل لينين على تطوير الدياليكتيك الماركسي على مستوى المعرفة، من خلال الدفاع عن الفلسفة المادية الماركسية في ظل هجوم المثالية الذاتية على المذهب الماركسي، وبلور الدياليكتيك المادي الماركسي في مجال المعرفة مما يميز اللينينية عن غيرها من المذاهب، وذلك بإعطائها للدياليكتيك المادي الماركسي بعدا أشمل وأدق على جميع المستويات السياسية والاقتصادية والتنظيمية والنضالية.
لقد وجه إنجلس لمنظور كانط حول "الشيء في ذاته" نقدا صارخا ونعت الكانطية  باللاعرفانية، فبعد أن صنف الفلاسفة إلى معسكرين اثنين أحدهما مادي والثاني مثالي أكد على وجود فلاسفة متذبذبين، وهم يتأرجحون بين هذا المعسكر وذاك من منطلقات لاعرفانية في عجز تام عن تحديد الموقف الصريح من المادية والمثالية، ولا يستطيعون تحديد العلاقة بين الفكر والواقع الموضوعي. ويقول إنجلس عنهم: "لكن هناك، إلى جانب ذلك"(أي إلى جانب الماديين وإلى جانب المثاليين المنسجمين) "عدد من الفلاسفة الآخرين ممن يشكون في إمكانية معرفة العالم أو، على الأقل، معرفته معرفة كاملة، وفي عداد هؤلاء، نجد بين الفلاسفة الحديثين هيوم وكانط اللذين قاما بدور على جانب كبير من الأهمية في تطوير الفلسفة...".(2)
وأكد إنجلس أن اللاعرفانية الكانطية تتجلى في كونها لا تعترف بإمكانية معرفة الواقع الموضوعي رغم التسليم بوجود "الشيء في ذاته"، وذلك لكونها لم تستطع التخلص من منطلقاتها المثالية الذاتية، مما جعلها تقول بعجزنا عن معرفة المادة التي يعتبرها كانط غيبية، بإنكاره لإمكانية معرفة الواقع الموضوعي بواسطة فكرنا، هكذا قام كانط فقط بالتسليم بوجود "الشيء في ذاته" دون التوصل إلى تحديد أثره المادي وعلاقته بالفكر.
ويطرح إنجلس مجموعة من التساؤلات التي عجزت الكانطية عن الإجابة عنها:"... ما هي العلاقة بين أفكارنا عن العالم المحيط بنا، وهذا العالم نفسه ؟ وهل يستطيع فكرنا أن يعرف العالم الواقعي ؟ وهل نستطيع في تصوراتنا ومفاهيمنا عن العالم الواقعي أن نكون انعكاسا صادقا عن الواقع ؟".(3)
وحسب إنجلس فإن أكثرية الفلاسفة الكبار قد أجابوا عن هذه التساؤلات بالإيجاب، لكن ليسوا جميعهم مؤكدين إمكانية معرفة الواقع الموضوعي عن طريق فكرنا، وليس فقط اللاعرفانيين منهم بل كذلك "المثاليين الأشد انسجاما" كما يقول لينين، وعلى رأسهم هيكل الذي يؤمن ب"الفكرة المطلقة" التي "وجدت في مكان ما منذ الأزل".
وجاء إرنس ماخ وأفيناريوس ليعيدا إحياء الفلسفة المثالية البركلية مرورا بلاعرفانية هيوم محاولين نقد اللاعرفانية الكانطية، في جهل تام بمنطلقاتهما المثالية الذاتية التي جعلتهما يكرسان مبدأ اللاعرفانية الذي تتسم به فلسفة كانط. يقول إرنست ماخ في كتابه "تحليل الإحساسات، ص:292 " في نقده لمثالية كانط:"بجزيل الشكر، يجب أن أعترف أن مثاليته النقدية بالذات هي التي كانت نقطة الانطلاق لكل تفكير النقاد. ولكني لم أستطع البقاء وفيا له. فبعد فترة وجيزة جدا عدت من جديد إلى نظرات بركلي... توصلت إلى نظرات قريبة من نظرات هيوم... وفي الوقت الحاضر أيضا، لا أزال أعتبر بركلي وهيوم مفكرين أكثر انسجاما من كانط". وفي هذا النص الصريح يؤكد ماخ أنه انطلق من كانط ليصل إلى بركلي عبر هيوم مدعيا أنه يطور الماركسية، وهو يطورها حقا لكن في اتجاه اللاعرفانية والمثالية في جهل تام بالدياليكتيك الماركسي. ويقول أفيناريوس عن تطهير فلسفة كانط من اللاعرفانية(4)
واستخلص لينين أن أفيناريوس الذي سبق له أن اعتقد أنه قام ب"تطهير الكانطية" من الاعتراف ب"الضرورة والسببية" والتسليم ب"الجوهر أي بالشيء في ذاته" ، قد اعتقد في هذا النص أنه طهر "التجربة" التي قام كانط ب"تطهيرها بشكل غير كاف" حتى تصبح "تجربة خالصة" ولأول مرة. وهو يجهل أن شولتسه نصير لاعرفانية هيوم وفيخته نصير بركلي قد قاما قبله بنقد تسليم كانط ب"القبلية أي الشيء في ذاته"، إلا أنهم جميعهم يجهلون أنهم لم يقوموا إلا بتطهير الكانطية من العرفانية حتى تصبح فلسفة لاعرفانية خالصة.
ويقول لينين:"وهكذا ، ضل أفيناريوس ضلالا شديدا حين توهم أنه يقوم "للمرة الأولى" "بتطهير التجربة" عند كانط من القبلية ومن الشيء في ذاته. وحين توهم أنه يخلق بذلك اتجاها "جديدا" في الفلسفة. أما في الواقع، فإنه واصل خطا قديما هو خط هيوم وبركلي وشولتسه ـ إينيزيدم وأي. غ. فيخته. لقد توهم أفيناريوس أنه "يطهر التجربة" على العموم، أما في الواقع، فإنه لم يفعل غير أنه طهر اللاعرفانية من الكانطية. فهو إذ ناضل، لم يناضل ضد لاعرفانية كانط (اللاعرفانية هي إنكار للواقع الموضوعي، المعطى لنا في الإحساس)، بل ناضل في سبيل لاعرفانية أكثر طهارة". نفس المرجع. لكون كانط قد سلم ب"وجود الشيء في ذاته" لكن من منطلق الغيبية "حتى وإن كان مستحيلا على المعرفة ووهميا وغيبيا" كما يزعم كانط، وهو يعترف بوجود "الضرورة والسببية" حتى وإن كانت "قبلية، معطاة في التفكير، وليس في الواقع الموضوعي " كما يدعي. (5)
وأكد لينين أن أفيناريوس قد ناضل ضد كانط من منطلق الاتجاه اليميني وليس من الإتجاه اليساري، فهو مثله في ذلك مثل الريبيين والمثاليين عكس الماديين المنسجمين أي الماركسيين، ولم يستطع الوصول إلى ضبط منظور كانط الفلسفي اللاعرفاني، الذي يتسم بمحاولة التوافق بين المادية والمثالية.(6) إن التذبذب الحاصل في فكر كانط وضع الكانطية في موقف حرج بين الاتجاهين المادي والمثالي معا، فتعرضت للنقد من طرف الفلاسفة الماديين والمثاليين على السواء، نتيجة عدم قدرته على حسم اتجاهه الفلسفي حيث حاول الخلط بين فلسفتين متناقضتين متعارضتين، عاشتا منذ بروز الفكر الفلسفي صراعا مريرا حول سيادة تفكير أحد الاتجاهين وهما المادية والمثالية.
و يؤكد لينين أن الفكر اللاعرفاني قد استمد أصوله من فلسفة بركلي المعادية للمادية مرورا بفلسفة هيوم اللاعرفانية وصولا إلى الكانطية، وحاول ماخ وأفيناريوس ترسيخ هذا الفكر عبر نشر "المذهب النقدي التجريبي" المعادي للماركسية، وسار أتباعهما من أساتذة التعليم الرسمي في القرن 20 على خطى هذا المذهب ضد المادية، وحوله التحريفيون الانتهازيون في القرن 21 إلى مرشدهم ضد الماركسية اللينينية، عبر محاولة التوفيق بين الفكر البورجوازي والماركسية في نضالهم ضد الماركسية اللينينية.
إن تذبذب كانط وعدم حسم اتجاهه الفلسفي (في اتجاه المادية أو المثالية) جعل فكره يتعرض للنقد من اليمين ومن اليسار، من المثاليين المنسجمين واللاعرفانيين/الهيوميين من جهة والماديين الماركسيين من جهة ثانية، وقام ماخ وأفيناريوس بمحاولة نقد ما في فلسفة كانط من مادية (الشيء في ذاته) لكن من منطلق اللاعرفانية. وقام الماديون المنسجمون/الماركسيون بدحض ما في فلسفة كانط من مثالية بقولهم ب"وجود الشيء في ذاته مع إمكانية معرفته وعلاقته بالظواهر".(7) فالماديون المنسجمون أي الماركسيون يقرون بإمكانية معرفة الشيء في ذاته وعلاقته بالظاهرة بواسطة فكرنا، عكس المثاليين واللاعرفانيين العاجزين عن تحديد العلاقة بين الفكر والواقع الموضوعي واللذان حاربا مادية كانط. وقال لينين عن اللاعرفانيين  والمثاليين "رأوا خطيئة كانط في تسليمه بالشيء في ذاته، بوصفه تنازلا في صالح المادية أو"الواقعية" أو "الواقعية الساذجة".(8) وكلا الاتجاهين (المثالي واللاعرفاني) ينسجمان لكونهما يحاربان المادية في فكر كانط الذي عصف بالمثالية نحو المادية في نظرهما في قوله ب"الشيء في ذاته" ولو بشكله الغيبي.
وقام الماخيون/أتباع ماخ وأفيناريوس بارتكاب نفس أخطاء اللاعرفانية (الريبية) والمثالية وهم لا يعرفون أنهم يدحضون مادية كانط، ويزعمون أنهم يطهرون الكانطية من انزلاقاتها نحو المثالية جاهلين أن الشيء في ذاته قائم خارج وعينا.(9) ويعتقد الماخيون أن ما قام به الماديون الماركسيون اتجاه "الشيء في ذاته" إنما هو خلط بين المادية والكانطية، وذلك ناتج عن جهلهم التام بالدياليكتيك الماركسي الذي بدون معرفته لا يمكن محاكمة فلسفة كانط محاكمة مادية، كما فعل الماديون المنسجمون/الماركسيون عند تناولهم ل"الشيء في ذاته" من وجهة يسارية محاولين تطهير الكانطية من معالم المثالية، وبالتالي دحض ادعاءات أنصار المذهب النقدي التجريبي حول تطهير الماركسية وتطويرها، وهم يجهلون أنهم انطلقوا من الكانطية مرورا بالهيومية ليصلوا إلى البركلية وأسسوا الفكر اللاعرفاني الحديث، باعتباره أساس منطلقات التحريفية الانتهازية الحديثة في نضالها ضد الماركسية اللينينية.
ولا بد لنا من التعرف على نقد الماديين لفلسفة كانط حتى نكون على علم بأسس منطلقات التحريفية الانتهازية اليوم، وحتى مادية ما قبل ماركس وإنجلس قد حظيت باهتمام كبير في هذا الشأن، باعتبارها وجهت النقد للكانطية من قبل من وجهة نظر يسارية. فقد لام فورباخ كانط على ما شاب فلسفته من مثالية ووصفها بأنها "المثالية على أساس التجربة"، وقام بمحاكمة الكانطية باتخاذها الإحساسات أساس منطلقاتها لتحديد "الشيء في ذاته" الذي اعتبره كانط مجرد تصور وليس واقعا، وأن "الشيء في ذاته يقوم في أساس الظواهر" وعلق فورباخ على قول كانط "فصل الحقيقة عن الواقع، والواقع عن الحقيقة". (10)
ويقول لينين أن فويرباخ لا يلوم كانط على تسليمه ب"الشيء في ذاته" بل لعدم تسليمه ب"فعليته أي بواقعيته الموضوعية"، الذي اعتبره مجرد فكرة "جوهر تصوري" وليس "جوهرا يملك وجودا" باعتباره موجودا فعلا في الواقع الموضوعي، وهو يلومه لكونه تراجع عن المادية في اتجاه اللاعرفانية والمثالية، في اتجاه هيوم وبركلي، وهو بذلك رجعي حسب فورباخ. وأن فورباخ دافع عن "المذهب الحسي الموضوعي" أي عن المادية إلا أنه لم يستطع التخلص من نواقص منظوره المادي، وعمل إنجلس وماركس على تطهير المادية من شوائب المثالية وأسسا معا الدياليكتيك الماركسي، الذي عمل لينين على تطويره على المستوى المعرفي عبر نقده للمذهب النقدي التجريبي، الذي اعتمدته الماخية في حربها ضد المذهب الماركسي، بدعوى شيخوخة أفكار ماركس وإنجلس وهي في حاجة إلى التطوير.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ماركس كتاب:برومير لويس بونابرت، دار النشر الاجتماعية الأممية باريس 1927.
(2) إنجلس كتاب:لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية"
(3) نفس المرجع.
(4) أفيناريوس كتاب:مقدمات لنقد التجربة الخالصة"
(5) لينين كتاب : المادية و المذهب النقدي التجريبي.
(6) نفس المرجع.
(7) نفس المرجع ص:228.
(8) نفس المرجع.
(9) نفس المرجع.

(10) إنجلز، (Werke, II, S, 302-303).

Aucun commentaire: