المذهب الماركسي اللينيني باعتباره جوهر الدياليكتيك الماركسي



حاول الماخيون دحض النظرية الماركسية انطلاقا من اللاعرفانية حيث انطلاق ماخ وأفيناريوس من الكانطية مرورا بالهيومية وصولا إلى البركلية، في محاولة منهما لوضع أسس المذهب النقدي التجريبي لمحاربة المذهب الماركسي. وقد سبق لماركس وإنجلس أن قاما بنقد أفكار فورباخ المادية وبالتالي الفلسفة الألمانية الكلاسيكية، وذلك بإدخال "مقياس الواقع العملي في أساس النظرية المادية للمعرفة" كما قال لينين. حيث يقول ماركس عن العلاقة بين النظرية والممارسة: "إن اعتبار التفكير البشري يتطابق مع الحقيقة الملموسة (أي الموضوعية) في معزل عن الواقع العملي إنما هو سكولاستيك."(1) ويقول إنجلس عن الممارسة العملية:"إن أفضل دحض للاعرفانية الكانطية والهيومية، وكذلك لشتى الشعوذات الفلسفية إنما هو الواقع العملي".(2) وأكد لينين على أهمية جدال لافارغ ضد الكانطيين وهو تلميذ إنجلس الذي انتقد كانط من اليسار انطلاقا من المشترك بين كانط وهيوم، ليس فقط بانتقاده لمنظوره حول "الشيء في ذاته" بل كذلك على "النظرة المادية الناقصة إليه" لدى كانط، وحاول البورجوازيون دحض مادية ماركس من منطلقات الكانطية.(3)
فخلال القرن 19 عمل البورجوازيون على محاولة دحض المذهب الماركسي بعد قيام الثورات البروليتارية بألمانيا، وبروز التناقضات بين الرأسمال والعمل وانكشاف أكاذيب البورجوازية حول الحرية والديمقراطية، ولم تجد البورجوازية إلا فلسفة كانط للجوء إليها من أجل محاربة الماركسية.(4) وعملت البورجوازية بعد سيطرتها على السلطة السياسية والاقتصادية والعسكرية على محاربة الماركسية باعتبارها مذهب البروليتاريا الثورية، الذي بإمكانه كشف زيف ادعاءات الشعارات البورجوازية التي تم رفعها أثناء الثورة البورجوازية، والتي سرعان ما انكشفت مع بروز الرأسمالية كنظام يسعى إلى الربح بشكل جشع عبر استغلال الطبقة العاملة، مما دفع باحتداد التناقضات بين الرأسمال والعمل التي أسفرت عن قيام الثورات البروليتارية خلال القرن 19، التي ساهمت بشكل كبير في وضع أسس المذهب الماركسي، عبر تطور الحركة العمالية الثورية التي أفرزت الفكر الماركسي خلال النصف الثاني من القرن 19، والذي طوره لينين في العقديين الأولين من القرن 20 عبر نقده للرأسمالية الجديدة/الإمبريالية التي اعتبرها "أعلى مراحل تطور الرأسمالية"، وبرزت الماركسية اللينينية باعتبارها النظرية المادية لعصر الإمبريالية والثورة البروليتارية.
لقد حقق لينين انتصارا باهرا على المذهب النقدي التجريبي الذي حاول عبره الماخيون الألمان والروس دحض المادية الجدلية، وأسس النظرية الماركسية اللينينية ببلورة المنظور الدياليكتيكي الماركسي في مجال المعرفة. وحاول الماخيون دحض الماركسية عبر نقد المادية التاريخية لماركس سعيا إلى تفنيد استنتاجاته حول الاقتصاد السياسي، التي باشر فيها نقد المنطلقات الأخلاقية في الاقتصاد السياسي عند ريكاردو، والتي سماها "تطبيق الأخلاق على الاقتصاد السياسي" مما جعلها "غير صحيحة شكلا من الناحية الاقتصادية"،(5) ويقول لينين عن الماخيين وعلى رأسهم ف.بلي الذي تناول في كتابه "الميتافيزيقا في الاقتصاد السياسي"، ما جاء في القول السابق لإنجلس، ومن أجل دحض استنتاجات ماركس المادية التاريخية، عمل الماخيون على:
ـ نعت ماركس ب"الميتافيزيقي" وغير ملم بالعرفانية وبالتالي فالماركسية "ميتافيزيقا" مثل علم الطبيعيات/الفيزيولوجيا.
ـ اعتبار الماركسية "الفرد" مقدارا لا شأن له.
ـ اعتبار نظريته "لابيولوجية" حيث لا تعرف ولا تريد أن تعرف أية "تنوعات حياتية".
ـ اعتبار نظريته حزبية.
ـ و سخروا من الحقيقة "الموضوعية".
وعلق لينين على استنتاجات بلي بقوله: "وإذا ما تبرأ أصحابنا الماخيون من بلي (وسيتبرأون منه على الأرجح)، فإننا سنقول لهم: لا تلم المرآة إذا... وإلخ. فإن بلي مرآة تعكس بصدق وأمان ميول المذهب النقدي التجريبي، في حين أن تبرؤ ماخيينا يشهد فقط على نواياهم الطيبة، وعلى سعيهم الاختياري السخيف للجمع بين ماركس وأفيناريوس".(6)
لقد أسس لينين المذهب الماركسي اللينيني بعد تطويره للدياليكتيك الماركسي على مستوى المعرفة مما ساهم في تطوير المادية الجدلية والمادية التاريخية، وتمت بلورة الدياليكتيك الماركسي في أوساط العلماء الروس الذين حققوا بفضله إنجازات باهرة على مستوى البحث العلمي، الشيء الذي أهل الاتحاد السوفييتي ليصبح قوة اقتصادية عالمية، نتيجة تطور الصناعة وتصنيع الفلاحة وتطوير بلدان الاتحاد في ظل النظام والاقتصاد الاشتراكي.(7) واللينينية تطوير للماركسية على جميع المستويات الفلسفية والاقتصادية والسياسية والتنظيمية لهذا سماها ستالين "ماركسية عصر الاستعمار والثورة البروليتارية"، لكونها نتاج الحركة البروليتارية الثورية في مواجهة الإمبريالية في علاقتها بحركة التحرر الوطني العالمية بالبلدان المستعمرة، وتعتبر تطويرا لماركسية ما قبل الثورات الاشتراكية، تطوير في اتجاه البناء الاشتراكي وبناء المجتمعات الاشتراكية وعهد السوفيات.(8) فاللينينية تطوير للماركسية و ليست فكرا جامدا كما يدعي الماخيون الجدد في القرن 21 أو الماركسية التقليدية كما يقول التحريفيون الانتهازيون الجدد (الماويون)، وقد عمل ستالين على تطبيقها وتطويرها في الاتحاد السوفييتي نظريا وممارسة، في ظل دولة ديكتاتورية البروليتاريا باعتبارها الممارسة العملية للينينية، من خلال البناء الاشتراكي وتطوير قوانين الاقتصاد الاشتراكي ووضع الدستور الاشتراكي.
لقد عمل لينين على استكمال بناء نظرية الثورة الاشتراكية انطلاقا من دراسته للواقع الموضوعي للرأسمالية في عهد الاستعمار وفي مرحلة متقدمة منه، وليس انطلاقا من أوضاع روسيا الخاصة حتى يمكن نعت اللينينية بالتطبيق العملي للماركسية بروسيا كما يدعي التحريفيون الانتهازيون الجدد. وساهم الصراع الأيديولوجي والسياسي الذي خاضه لينين ضد الماخيين الألمان والروس في ترسيخ أسس اللينينية.(9)
في المجال الاقتصادي سعى التحريفيون الانتهازيون إلى التأثير على الجماهير بما كانوا يسمونه ب"المعطيات الجديدة في التطور الاقتصادي"، زاعمين أن تمركز الإنتاج وإزاحة الإنتاج الكبير للإنتاج الصغير لا يظهر في الزراعة في الوقت الذي يجري ببطء في مجال التجارة والصناعة، واعتبروا أن الكارتيلات والتروستات تخفف من حدة أزمات الرأسمالية إلى حين زوال الأزمة تماما، والتناحر داخل النظام الرأسمالي أخذ يقل مما جعل نظرية الإفلاس خاطئة، لذا وجب إدخال تعديلات على النظرية الماركسية وفق هذه المعطيات الجديدة بما في ذلك نظرية القيمة.
وواجه لينين البرينشتينيين بصرامة بدءا بالاقتصاد الذي يحاولون من خلاله تركيز الآراء البورجوازية لبوهم- بافيرك معتمدا على الوقائع والأرقام التي تبين ضعف نظريتيهم، حيث أن الإنتاج الضخم يتفوق على الإنتاج الصغير في جميع المستويات الزراعية والصناعية والتجارية، إلا أن الإنتاج البضاعي في الزراعة ضعيف بالنسبة للإنتاج الصناعي لذا لا يظهر التمركز في الزراعة بنفس الحدة كالصناعة. فالتقدم العلمي المطرد يؤثر تأثيرا سلبيا على الإنتاج الصغير في المجتمعات الرأسمالية وكان على علم الاقتصاد الاشتراكي أن يوضح ذلك بالتحليل المادي، وأوضح لينين أن الإنتاج الصغير لا محل له في النظام الرأسمالي،  وعلى الفلاح تبني النظرية البروليتارية الثورية عكس دعوة التحريفيين الانتهازيين للفلاح بتبني وجهة نظر الملاك التي تعتبر نظرية بورجوازية.
إن ما دفع التحريفيين الانتهازيين إلى محاولة تعديل المذهب الماركسي هو انبهارهم أمام ما حققته الصناعة من تقدم خلال السنوات الأخيرة من القرن 19، جازمين من أن الأزمات قد تجاوزتها الرأسمالية بذلك المستوى الطفيف من تطور وسائل الإنتاج غافلين أن وراء كل ازدهار للرأسمالية أزمة باعتبار الرأسمالية تلازمها الأزمات، وتوحيد إنتاج الكارتيلات والتروستات لم يزد إلا فوضى الإنتاج وتفاقم الأوضاع المزرية للبروليتاريا في ظل طغيان الرأسماليين، والرأسمالية في تطورها تسير نحو الإفلاس عبر مختلف الأزمات السياسية والاقتصادية للوصول إلى  الانهيار التام، ووضع الأسس العلمية للرأسمال المالي المهيمن على الرأسمالين التجاري والصناعي في ظل الرأسمالية الإمبريالية التي سماها أعلى مراحل تطور الرأسمالية.
لقد شكل الاستعمار والحرب في الأطروحة اللينينية عنصرين ملازمين للرأسمالية الإمبريالية ويتجلى ذلك في اعتماد دراسة لينين لعصر الإمبريالية على هذين العنصرين، وذلك لتحديد ملامح تطور الرأسمالية خلال العقدين الأولين من القرن 20 والأزمات التي تلاحقها، والتي شكلت فيها سيطرة الرأسمال المالي على التجارة العالمية عنصرا أساسيا في الاقتصاد، وذلك انطلاقا من الدياليكتيك الماركسي الذي يحدد تطور المجتمعات انطلاق من العلاقة الجدلية بين القوى المنتجة الجديدة وعلاقات الإنتاج القديمة والتي يشكل فيها الاقتصاد الأساس المادي للتطور. واعتبر لينين أن أساس الصراع بين الإمبرياليات ليس دبلوماسيا إنما يرتكز على التنافس الاقتصادي الذي أفضى إلى الاحتكارات الكبرى واستعمار الدول الفقيرة، وبالتالي بروز الاحتكار الاقتصادي الذي يرتكز على تصدير الرساميل وتقسيم العمل عالميا وأن الحرب الإمبريالية ما هي إلا نتيجة هذا الصراع، وهكذا اكتشف أن الإمبريالية ما هي إلا أعلى مراحل تطور الرأسمالية التي لا يمكن لها أن تحقق هذا الكم الهائل من وسائل الإنتاج إلا باضطهاد الشعوب الفقيرة، واعتبر أن تطور وسائل الإنتاج في الدول الإمبريالية أدى إلى اضطهاد الشعوب الأخرى وتعتبر السكك الحديدية من بين هذه الوسائل التي سخرتها الإمبرياليات لاضطهاد الشعوب خاصة في ذلك العصر.(10)
إن التطور الهائل لوسائل الإنتاج المادية والثقافية إنما تسخره الرأسمالية الإمبريالية للظفر بمزيد من الاحتكارات عن طريق تصدير الرساميل وجلب المواد الخام من البلدان الفقيرة، والذي نتج عنه سيطرت المال على التجارة العالمية التي تعتبر فيها السكك الحديدية "حاصل جميع الفروع الرئيسية في الصناعة الرأسمالية" كما يقول لينين عن ذلك العصر، نظرا للدور الذي تقدمه للرأسمالية الإمبريالية عبر تسهيل الاتصال بين جميع فروع الصناعة الرأسمالية وتطور التجارة العالمية. وناضل لينين ضد تحريف المادية التاريخية من طرف الماخيين وعلى رأسهم بتسولدت الذي استعمل كلمة "الاستقرار" لتفسير علاقات الإنتاج، في كتابه "مقدمة إلى فلسفة التجربة الخالصة" محاولا إرجاع كل ما يقوم به الناس أثناء الإنتاج إلى السعي وراء "الاستقرار"، معتبرا أن "التطور البشري ينطوي على هدفه" وهو يسير نحو "الحالة المستقرة الكاملة".(11)
وتناول لينين منظور بوغدانوف الذي يسميه تطوير الماركسية محاولا كشف العلاقة بين الوعي الاجتماعي والوجود الاجتماعي، في مقال له تحت عنوان "تطور الحياة في الطبيعة وفي المجتمع"(12) وهكذا يعتقد أنه طور الماركسية، وقد طورها بتشويه استنتاجات ماركس التي تقول بأن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي، وأن مصدر أفكارنا هو الصراع بين القوى المنتجة الجديدة وعلاقات الإنتاج القديمة، وما أن يتغير الأساس الاقتصادي حتى تتغير البنية الفوقية أي أفكارنا.(13) ويسمي لينين هؤلاء الأساتذة خدم الرأسمالية، ويوصي كل الماركسيين بمعرفة كيفية معاملة هؤلاء الخدم باستيعاب ومعالجة مكتسباتهم، وذلك بالقطع مع كل ما تحتويه من "ميل رجعي" بتطبيق الخط الماركسي ضد جميع "خطوط القوى والطبقات المعادية"، ذلك ما لم يستطع الماخيون القيام به وساروا وراء "الفلسفة الأستاذية الرجعية".
واعتبر لينين أن الماخيين بإنكارهم "الواقع الموضوعي المعطى لنا من خلال أحاسيسنا" إنما يغرقون في الإيمانية وينزلقون إلى اللاعرفانية أو الذاتية، لأن العالم مادة متحركة ويجب دراستها "إلى ما لا نهاية" إذ لا يمكن أن يكون ثمة شيء آخر خارج هذه المادة، والعداء الرائج ضد المادية في أوربا "المتمدنة والديمقراطية" وهو ما زال قائما حتى يومنا هذا يخفيه الأساتذة الرجعيون على الجماهير باعتبارهم خدما للرأسمالية (14)
وقام لينين بالمقاربة بين الأسس النظرية للمذهب النقدي التجريبي اللاعرفانية والدياليكتيك الماركسي المادي، وأجرى محاكمات فعلية للفلسفة الماخية، ووقف على "المسائل العرفانية الرجعية التامة" التي تلازم هذا المذهب الذي استعمل كلمات سماها ب"الجديدة"، وارتكب عبرها الماخيون الأخطاء القديمة للمثالية واللاعرفانية حيث لا يمكن الجمع بينه وبين المذهب الماركسي، كما سعوا للوصول إلى ذلك بطريقة لاعرفانية لجهلهم بالدياليكتيك الماركسي مدعين أنهم يطورون الماركسية. وحدد لينين موقع المذهب النقدي التجريبي باعتباره مدرسة فلسفية صغيرة بين المدارس الفلسفية الأخرى في العهد المعاصر، فانطلق ماخ وأفيناريوس من كانط في الاتجاه المعاكس للمادية نحو هيوم وبركلي في محاولة فاشلة لتطهير "التجربة"، ولم يقوما بغير تطهير اللاعرفانية من الكانطية ورسخا المنظور المثالي في الفلسفة الماخية في وحدة مع الكمونية الأشد إغراقا في الرجعية. وأقر لينين أن الماخية في صلة وثيقة مع مدرسة في فرع من فروع العلوم الطبيعية الحديثة التي تضم مجموع علماء الطبيعة خاصة في الفيزياء، الذين عجزوا أمام أزمة الفيزياء فانزلقوا عبر مفهوم النسبية نحو المثالية بحكم جهلهم بالدياليكتيك الماركسي، وتشبثوا بالمثالية الفيزيائية شأنها شأن المثالية الفيزيولوجية فيما قبل.
وأكد لينين أن المذهب النقدي التجريبي يتسم بالسيكولاستيك العرفاني الذي يحدد صراع الأحزاب في الفلسفة، من خلال صراع الطبقات المتناقضة في المجتمعات المعاصرة عبر أيديولوجيتها المتناقضة، واعتبر الفلسفة الحديثة حزبية مثلها مثل الفلسفة منذ القدم باعتبار المادية نقيض المثالية وهما في صراع دائم إلى الأبد.(15) واستنتج لينين عبر نقده للمذهب النقدي التجريبي منظوره حول الدياليكتيك الماركسي الذي أعطاه بعدا أدق وأشمل، بتحديد أسس "الحركة الذاتية" عبر قوله:
ـ إن ازدواج ما هو واحد ومعرفة جزأيه المتناقضين يشكلان جوهر الدياليكتيك.
ـ إن تماثل الأضداد هو إقرار بميول متناقضة، متضادة، ينفي بعضها بعضا في جميع ظاهرات الطبيعة والمجتمع وتفاعلاتها.
ـ إن إدراك "الحركة الذاتية" لتفاعلات العالم، من حيث تطورها العفوي، من حيث واقعها الحي، ينبغي إدراكها من حيث هي وحدة من الأضداد، ويعطينا التاريخ مفهومين أساسيين للتطور:
ـ إن التطور هو نضال الأضداد، التطور بوصفه نقصانا وزيادة، بوصفه تكرارا.(المفهوم الأول).
ـ إن التطور بوصفه وحدة الأضداد (ازدواج ما هو واحد، إلى ضدين ينفي أحدهما الآخر، وعلاقات بين الضدين). (المفهوم الثاني).
ـ المفهوم الأول جامد، عقيم، جاف، والمفهوم الثاني طافح بالنشاط و الحياة، وهو يعطينا مفتاح "الحركة الذاتية" لكل ما هو موجود (القفزات، الانقطاع في الاستمرار، تحول الشيء إلى ضده، تدمير ما هو قديم، ولادة ما هو جديد).
ـ إن وحدة الأضداد مشروطة، مؤقتة، نسبية، و نضال الأضداد التي ينفي بعضها بعضا، هو مطلق، كما هو عليه التطور، كما هو عليه الحركة.
ويقول لينين عن النسبية والمطلق :"إن الذاتية (الريبية والسفسطائية، إلخ) تختلف عن الدياليكتيك، فيما تختلف عنه، بما يلي:
ـ إن الفرق بين النسبي والمطلق هو أيضا نسبي بنظر الدياليكتيك (الموضوعي).
ـ بنظر الدياليكتيك الموضوعي يوجد مطلق في النسبي.
ـ بنظر الذاتية والسفسطائية، فالنسبي ليس سوى نسبي، وهو ضد المطلق."(16)
وأكد لينين أن ماركس تناول في كتابه "رأس المال" أدق الجزئيات في الحركة داخل المجتمعات الرأسمالية، أبسط الأشياء، الأشياء العادية، أكثرها شيوعا، الأشياء الأساسية، تبادل البضائع، وقام بتحليلها وبين لنا "في هذه الظاهرة البسيطة جميع تناقضات المجتمع المعاصر"، وكذلك يجب أن يكون الدياليكتيك بشكل عام في تناوله لجميع القضايا، تناول أبسط الجمل العادية، وأكثرها تواترا، لكن المادية "الميتافيزيقية" تعجز عن تطبيق الدياليكتيك "على مجرى المعرفة وتطورها" كما قامت بذلك المادية التاريخية.(17)
وسار ستالين على نهج لينين في تناوله للدياليكتيك الماركسي وتطبيقه على طبيعة الحركة الذاتية في الحزب الشيوعي، في التعاطي مع تناقضاته الداخلية، في تطوره عبر تطبيق المادية التاريخية، ومن خلال دراسة وتحليل الإرث النظري الذي خلفه لينين، وأعطى ستالين تعريفا أبعد للدياليكتيك في علاقته بالتطور التاريخي للحزب الماركسي اللينيني. (18) وأكد ستالين أقوال لينين حول الحركة الذاتية وعلاقتها بالواقع الموضوعي، في علاقتها بقوانين العالم الموضوعي، بأحد أهم هذه القوانين أي التناقض في ظل الوحدة، في علاقتها بالخاص والعام، النسبي والمطلق، الذاتي والموضوعي.(19) واعتبر ستالين أنه لا يمكن تناول الظواهر بمعزل عن الواقع الموضوعي، ويمكن فهم هذه الظاهرة عندما نأخذها بذاتها ، فهي في ترابط مع غيرها من الظواهر المحيط بها، مع الظروف المحيطة بها.(20) وكما أن الظواهر غير مستقلة عن بعضها البعض، فإنه لا بد من اعتبار حركتها وتغيرها وتطورها، في نشوئها وزوالها بارتباطها مع تناقضاتها وعلاقاتها، وتناقض الأضداد في صراعها ونضالها من أجل نفي بعضها لبعض، وتناول ستالين مفهوم التطور الذي أعطاه لينين بعدا أدق "التطور هو نضال الأضداد... التطور بوصفه وحدة الأضداد"، وهو ليس عملية بسيطة باعتباره يجري في ظل الحركة.(21) والدياليكتيك الماركسي هو نتاج الحركة المعرفية للمادية الجدلية والمادية التاريخية في صراعهما مع المادية الميتافيزيقية، في نظرتها الذاتية للوقائع التاريخية باعتبارها نتاج الفكر، مستقلة عن الواقع الموضوعي، باعتبار الظواهر مستقلة عن الجوهر، عكس الدياليكتيك الماركسي الذي ينطلق من المادة باعتبارها الواقع الموضوعي للوصول إلى الفكر، وأن قياس المعرفة لا يكمن إلا عبر العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع الموضوعي، ومعرفة قوانين التطور الطبيعي والاجتماعي أمر ممكن التوصل إليه، كما يمكن تطويع هذه القوانين وتسخيرها في سبيل تطور الأنظمة الاجتماعية.(22) والمادية التاريخية تستند إلى العلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي، بين الواقع الموضوعي والإدراك، باعتبار أفكارنا وتصوراتنا انعكاسا للواقع الموضوعي عبر إحساساتنا، التي يمكن أن تعكس الوجود الاجتماعي في وعينا بشكل يقترب من الحقيقة، إذا كان هناك وجود للوعي، والبحث عن الحقيقة لا يتم عبر الأفكار والتصورات السياسية والأيديولوجية، إنما يكون انطلاقا من الوجود الاجتماعي ومعرفة هذا الوجود بواسطة الدياليكتيك.(23)
وهذا لا يعني عدم أهمية الأفكار في التطور الاجتماعي، فالعلاقة الجدلية بين النظرية والممارسة لها أهمية قصوى في حركة المجتمع.(24) وأكد ستالين أن مصادر الأفكار والنظريات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والحقوقية والفلسفية والفنية وغيرها، إنما يكمن في شروط الحياة المادية للمجتمع/شروط الوجود الاجتماعي. وتعتبر الأفكار والنظريات انعكاسا لشروط الحياة المادية للمجتمعات البشرية وهي تمارس بدورها تأثيرها على تطور شروط الحياة المادية للمجتمعات البشرية/الوجود الاجتماعي والقاعدة الاقتصادية للمجتمع.(25) وللنظرية دور فعال في تحريك التاريخ عبر الصراع الطبقي، عندما تكون هذه النظرية في مستوى المهام المطروحة على قوى التغيير الاجتماعي، وحينما يتم بلورتها نضاليا وتنظيميا في أوساط الجماهير.(26) وعلى الحزب البروليتاري البحث عن القوة الرئيسية في تطور المجتمع، ذلك ما يمكن أن يحدده عبر تحريكه للصراع الطبقي، باعتبار هذا الأخير المحرك الأساسي للتاريخ، وهو يكمن في التناقض بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج.(27)
إن للأساس الاقتصادي أهمية قصوى في التحولات المعرفية فكلما طرأ عليه تغيير إلا وتغيرت المعرفة التي تلازمه، ولا يمكن البحث عن جذور حدث فكري معين وعن مصادره الاجتماعية بالاكتفاء بمستوى تطور القوى المنتجة، بل يتم ذلك بالمعرفة الكاملة للنظام الاقتصادي للمجتمع ككل، وذلك بالبحث عن التوافق أو عدم التوافق بين القوى المنتجة وعلاقات الإنتاج، ويجب البحث عن مصادر الأفكار الجديدة في الصراع بين القوى المنتجة الجديدة وعلاقات الإنتاج القديمة ولهذا:
ـ فالأفكار التقدمية مصدرها القوى المنتجة الجديدة في صراعها مع علاقات الإنتاج القديمة.
ـ التناقض بين علاقات الإنتاج في النظام الاقتصادي السائد والقوى المنتجة الجديدة هو مصدر النزاعات الاجتماعية وتنامي الصراع الطبقي وبالتالي مصدر الثورات الاجتماعية.
لقد عبد لينين الطريق للماركسيين اللينينين بتطويره للدياليكتيك الماركسي على مستوى المعرفة برفعه إلى مستوى أعلى، وسار ستالين في نهجه بتطبيق خلاصاته حول الدياليكتيك الماركسي على مستوى تطوير الحزب الماركسي اللينيني وقيادته للثورة الاشتراكية والحرب ضد الإمبريالية، واستفاد ماو من أعمال ستالين حول الدياليكتيك وأسس اللينينية، وأكد على ضرورة إخراج مسألة الدياليكتيك الماركسي من إطاره الفلسفي ليصبح أداة للتحليل في متناول الجماهير الشعبية.(28)
وعمل ماو على تيسير الدياليكتيك الماركسي حتى يصبح في متناول الجماهير الشعبية التي لا تحمل ثقافة عالية، محاولا ربط خلاصاته بإدماج الثقافات الشعبية الصينية التي يتداولها أوسع الجماهير الشعبية، من أجل بلورة الدياليكتيك الماركسي في الحياة اليومية للطبقة العاملة والفلاحين، خاصة داخل الحزب الشيوعي الصيني الذي يجب أن ينفتح على أوسع الجماهير.(29) ولكن بعض الرفاق الماركسيين اللينينيين لا يدركون كنه أعمال ماو وعلاقتها بالمستوى الأعلى للدياليكتيك الماركسي عند لينين، وهو هذه الصيغة الجماهيرية لممارسة الدياليكتيك الماركسي التي يسعى إليها ماو والتي أكد عليها لينين في كتاباته، وهؤلاء يريدون تحميل أعمال ماو أكثر مما هي عليه، وبذلك يعملون على قلب الدياليكتيك الماركسي ويسمون أنفسهم "ماويين". فهم لم يفهموا مقولة ماو حول الحزب التي استنتجها من أعمال لينين "في مسألة الدياليكتيك"، ويقولون أن ماو دفع بالدياليكتيك إلى مستوى أعلى من المذهب الماركسي اللينيني، وبذلك خرجوا من نطاق الحركة الماركسية اللينينية إلى الحركة التحريفية الانتهازية الحديثة.(30) إن مقولة ماو في هذه المسألة هي من صلب خلاصات لينين حول الدياليكتيك الماركسي، وقد سبق لماو أن استشهد بهذه الخلاصات في أعماله حول فهم العالم، باعتبار الدياليكتيك الماركسي أداة لضبط قوانين الطبيعة والمجتمع.(31)
وكان هاجس ماو مثله في ذلك مثل ستالين، هو تطوير الحركة داخل الحزب الماركسي اللينيني الذي يعتبر أداة لتنظيم البروليتاريا وحلفائها وبالتالي تنظيم الجماهير الشعبية وقيادة الثورة، من خلال ضبط التناقضات داخل الحزب التي تلعب دورها في تطوير حركة الحزب في علاقاتها بالتناقضات في الواقع الموضوعي، فتناقضات الحزب ما هي إلا نتاج صراع التناقضات الموضوعية في المجتمع، لذا وجب على الحزب أن يطور أيديولوجيته وفق تطور التناقضات داخل المجتمع، على اعتبار أن الوجود الاجتماعي هو الذي يحدد الوعي الاجتماعي.(32)
لقد حدد لينين صراع الأضداد في ظل الوحدة ودورها في تطور الحركة الذاتية في علاقاتها بالحركة الموضوعية، وتجليات الدياليكتيك في الطبيعة والمجتمع تتضح في الأشياء البسيطة كما تتجلى في الأشياء المعقدة، ومهمة الماركسيين اللينينيين هي تطبيق الدياليكتيك الماركسي على أوسع نطاق من البسيط إلى المعقد، في الحياة الخاصة والعامة، في ممارساتنا اليومية الشخصية والسياسية والتنظيمية، في الطبيعة والمجتمع، لضبط أسس التطور داخل الحزب البروليتاري الثوري في علاقته بالمجتمع.(33)
لقد قسم لينين المراحل التاريخية لتطور المذهب الماركسي إلى ثلاث مراحل أساسية منذ صدور البيان الشيوعي وهي:
1 ـ مرحلة الثورات الممتدة ما بين 1848 و 1871، وفي بداية هذه المرحلة لم يكن مذهب ماركس سوى فرعا من فروع التيارات الاشتراكية، وفي أواخر هذه المرحلة مرحلة العواصف والثورات ماتت اشتراكية ما قبل ماركس بميلاد الأممية الأولى 1864ـ1872 والحزب الاشتراكي الديمقراطي الألماني.
2 ـ المرحلة ذات الطابع "السلمي" الممتدة ما بين 1872 و 1905 والتي تشكلت فيها الأحزاب الاشتراكية ذات البعد البروليتاري والتنظيمات الموازية لها في كل مكان في الغرب، حيث انتهى الغرب من الثورة البورجوازية ويتم تحضير الشرق لهذه الثورة، وعرفت هذه المرحلة انتصارا ساحقا لمذهب ماركس مما دفع الليبرالية إلى أن تعلن حربها ضد مذهبه تحت أقنعة الانتهازية الاشتراكية، واكتسبت أنصارها في صفوف البرلمانيين الاشتراكيين والموظفين وفي الحركة العمالية والمثقفين.
3 ـ مرحلة الثورات الشرقية فبعد ثورة 1905 بروسيا قامت الثورة التركية فالإيرانية والصينية قبل أن ينتهي الانتهازيون من التشدق ب"السلام الاجتماعي" و"الديمقراطية"، لتبدأ مرحلة العواصف و"تأثيرها بالاتجاه المعاكس" في أوربا.
وعمل على تطوير المذهب الماركسي من خلال دراسته لهذه المراحل التاريخية في علاقتها بتطور الرأسمالية إلى مرحلة الإمبريالية وبزوغ عصر الثورات الاشتراكية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ماركس كتاب :"موضوعات عن فورباخ" 1845.
(2) إنجلس كتاب:"لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية" 1888.
(3) بول لافارغ:"مادية ماركس ومثالية كانط"25/02/1900 بجريدة السوسياليست.
(4)
(5) إنجلس : مقدمة كتاب ماركس "بؤس الفلسفة".
(6) لينين كتاب: المادية و المذهب النقدي التجريبي.
(7) ستالين كتاب: أسس اللينينية.
(8) نفس المرجع.
 (9) نفس المرجع.
(10) لينين كتاب: "الإمبريالية أعلى مراحل الرأسمال".
(11) كتاب المادية والمذهب النقدي التجربي.
(12) نفس المرجع.
(13) نفس المرجع.
(14) نفس المرجع.
(15) نفس المرجع.
(16) تفس المرجع.
(17) نفس المرجع.
(18) ستالين كراس :المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية.
(19) لينين كتاب: المادية والمذهب النقدي ا لتجريبي.
(20) ستالين كراس :المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية.
(21) نفس المرجع.
(22) نفس المرجع.
(23) نفس المرجع.
(24)  لينين كتاب ما العمل؟.
(25)  ماركس، .نقد الفلسفة الهكلية.
(26) ستالين كراس :المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية.
(27) نفس المرجع.
(28)  ماو، المنهج الجدلي لتثبيت وحدة الحزب. النسخة الإليكترونية، ترجمة: أمين الخطابي.
(29) نفس المرجع.
(30) نفس المرجع.
(31) ماو، نظرات إلى العالم.
(32) ماو، المنهج الجدلي لتثبيت وحدة الحزب. النسخة الإليكترونية، ترجمة: أمين الخطابي.
(33) ماو، نظرات إلى العالم.


Aucun commentaire: