في نهاية العقد الأول وبداية العقد الثاني من القرن 20، سعى بعض
الأساتذة البورجوازيين إلى مناصرة الفلسفة الوضعية ضد المذهب الماركسي، بتبنيهم ما
يسمى "الفلسفة الوضعية الحديثة" أو "فلسفة العلوم الطبيعية
الحديثة"، التي يتخذونها وسيلة لدحض الديالكتيك المادي الماركسي بعد انبهارهم
بما لحق العلوم الطبيعية من تطور هائل دون أن يستطيعوا فهمه وتفسيره وعلاقته
بالواقع الاجتماعي، معتقدين أنه من السهل عليهم تجاوز المذهب الماركسي المادي على
المستوى الطبيعي والاجتماعي، وفي
اجتهاداتهم هذه أصبحوا منحرفين بأفكارهم عن آراء ماركس وإنجلس في مجال المعرفة
والطبيعة والتاريخ، واعتبروا الماركسية عبارة عن "تصوف" وأنها أصبحت
"شائخة" وذلك نتيجة انحرافهم نحو الميتافيزيقا التي لازمت الصراع بين
قطبي الفلسفة المادية والمثالية.
وكان لابد للماركسيين من دحض مثالية القرن 20 في المجال المعرفي،
وكانت هذه المهمة ملقاة على عاتق لينين، الذي قام بدحض مقولات هؤلاء المثاليين الجدد عن مفهوم المادة
وعلى رأسهم أتباع إرنست ماخ، الشيء الذي ساهم في تطوير الدياليكتيك الماركسي في
مجال المعرفة، عبر المقاربة بين فلسفة الماخيين في القرن 20 وفلسفة بركلي في القرن 18 وتوجيه انتقادات
صارخة لها، واستنتج لينين أن الماخيين لم يقوموا إلا بإعادة إنتاج نفس أفكار بركلي
المثالية، في محاولتهم لدحض مقولة "الشيء في ذاته" أو
"المادة" خارج التجريد، خارج إدراكنا، واتهموا الماديين بأنهم متصوفون
حين يقرون ب"شيء غيبي قائم خارج حدود التجربة والمعرفة".(1)
وذهب لينين أبعد من ذلك في نقده للماخيين، وعمل على التحقق من آرائهم
باعتبارها ليست آراء جديدة كما يدعون لكون أسسها ترجع إلى بداية القرن 18، عندما
قاد جورج بركلي نفس الحملة العدائية ضد الماديين الذين لم يسميهم في كتاباته،
وأقروا أن المادية الفلسفية الحديثة لا تعترف بمفهوم "المادة"
و"الجوهر"، ويعتقد هؤلاء الأساتذة أن ماخ قام بإنجاز عظيم في مجال
المادية الحديثة، جاهلين أنهم يتفقون مع بركلي في قوله أن "المادة لا شيء وهي
جوهر لا وجود له"، متنكرين لوجود الثنائية: الجوهر
والمادة، الأشياء والأفكار، محاولين دحض الفلسفة المادية الماركسية بالرجوع إلى
الوراء والأخذ بمقولة "الفكرة".(2)
وقد سبق لإنجلس أن واجه المذهب المثالي وقسم الفلاسفة إلى اتجاهين
كبيرين في مؤلفه "لودفينغ فريوباخ"، وقسمهم إلى فلاسفة ماديين وفلاسفة
مثاليين وحدد الفرق الكبير بينهما، لكون الماديين يعتبرون المادة هي الأصل عكس
المثاليين الذين يعتبرون الروح هي الأصل والطبيعة الفرع، و بين هؤلاء وأولئك يوجد
أنصار هيوم وكانط الذين ينكرون إمكانية معرفة العالم أو على الأقل معرفته معرفة
تامة وسماهم "اللاعرفانيين"، وفي كتابه "المادية التاريخية"
يتحدث عن "اللاعرفاني الكانطي الجديد" ويقصد إنجلس هنا هيوم.
لقد اهتم إنجلس كثيرا بالقضايا ذات الصلة بالعلوم والتاريخ وتكلم
كثيرا عن فظاظة المفاهيم عند علماء الطبيعيات المعاصرين واعتبرها متحجرة، ونعت
نظراتهم بالميتافيزيقية المنافية للدياليكتيك المادي حيث يخلطون بين
النسبية والدياليكتيك، وأكد لينين نفس الملاحظات عند ماخ الذي حاول انطلاقا من
"الأحاسيس" تكوين "العناصر الفيزيائية"، ومن "العناصر
نفسها ينسج كلاما فارغا بعيدا عن الدياليكتيك المادي" (3)، وقصد ماخ بذلك
الدعاية للمثالية ضد المادية، واعتنق الكمونيون الذين يعتبرون من المثاليين
المتطرفين آراءه إذ يجدون فيها لذتهم في معارضة المادية.
وأكد لينين أن عمل ماخ على استنتاج "الأحاسيس" من
"حركة المادة" مناقض تماما لمادية ديدرو الذي دحض أقوال الماديين
المبتذلين الذين يدعون أن "الدماغ يفرز الأفكار" كأي عضو من أعضاء الجسم
الذي يفرز مادة معينة، وتجاهل ماخ استنتاجات ماركس وإنجلس كما تجاهل استنتاجات
هيكل وفويرباخ مثله في ذلك مثل باقي الأساتذة المدرسين للفلسفة الرسمية.
وحسب منظور ماخ عن عناصر العالم، قال لينين: "يتلخص اكتشاف
عناصر العالم (حسب ماخ)من:
ـ إن كل موجود يعلن إحساسا.
ـ إن الإحساسات تسمى عناصر.
ـ إن العناصر تنقسم إلى فيزيائي ونفسي، الأخير هو ما يتوقف على أعصاب
الإنسان وعموما على العضوية البشرية، الأول لا يتوقف.
ـ إن صلة العناصر الفيزيائية وصلة العناصر النفسية تعلنان غير
موجودتين بصورة منفردة أحدهما عن الآخر، فهما لا توجدان إلا معا.
ـ إنه لا يمكن التجرد عن هذه الصلة أو تلك إلا مؤقتا.
ـ إن النظرية "الجديدة" تعلن خالية من "أحادية
الجانب".
وعلق لينين على هذا المنظور: "لا وجود هنا بالفعل لأحادية
الجانب، ولكنه يوجد خلط ما بعده خلط بين وجهات نظر فلسفيتين متضادة. فما دمت تنطلق
من الإحساسات فقط. فإنك لن تصلح بكلمة "عنصر" "أحادية الجانب"
مثاليتك".(4)
وفي مؤلفه "تحليل الأحاسيس" صدق بوغدانوف أقوال ماخ جاهلا
أن ما أكد عليه مناقض تماما للحقيقة، وأكد لينين أن مثالية بوغدانوف تظهر حقا في مؤلفه هذا، وهو يقر بأن الإحساس هو
الوحيد الذي يمكن اعتباره موجودا مما يتناقض مع وجود الجوهر، وقوله بالأحاسيس
مستقلة كالقول بوجود الأفكار بدون دماغ.
ونعت لينين فلسفة بوغدانوف ب"النصف مادية تاريخيا طبيعيا"،
حيث لا يعتبر الإحساس الصلة المباشرة للإدراك مع العالم الخارجي، مع الواقع، من
خلال "تحويل طاقة التهييج الخارجي إلى واقع الوعي"، وهو يضع بذلك
الإحساس حاجزا وليس صلة بالعالم الخارجي ويفصل بالتالي الوعي عن الواقع، وهو يعيد
ما قاله بركلي منذ زمن بعيد، ونجد زعماء هذا التيار بإنجلترا كارل بيرسون الذي يقر
بموافقته على آراء ماخ وبفرنسا نجد دوهيم وهينري بوانكاره الفرنسيين. ويقول
بوغدانوف أنه لا يعتبر نفسه ماخيا في الفلسفة إذ أخذ من ماخ فقط عملية فصل ما هو
فيزيائي عما هو نفسي وتبعيتهما للتجربة، ويقول عنه لينين "أنه ينسى أنه أخذ
منه جوهره الخاطئ"، معتقدا أنه باستطاعته التخلص من منطلقاته المثالية
الذاتية، وكذلك هو حال كل نقاد المذهب التجريبي حيث لا يفهم بوغدانوف أنه يشترك مع
الماخيين فيما هو أساسي.(5)
وقام لينين بدحض المذهب النقدي التجريبي ذي الأسس المثالية الذاتية
الذي حاول من خلاله الماخيون العصف باستنتاجات المذهب الماركسي نحو المثالية، خاصة
منها الديالكتيك المادي الذي يريدون أن يتجاوزوه معتمدين في ذلك على استغلال
العلوم الطبيعية بشكل فج.
وقد حاول ماخ وأفيناريوس الخوض في مجال المعرفة على مستوى العلوم
الطبيعية من أجل إسقاط استنتاجات التجربة في هذا المجال على مستوى النفس، ولكن عدم
قدرتهما على فهم العلاقة بين الأحاسيس والأشياء جعلهما يتخبطان في تناقضات
المثالية الذاتية، فجهلهما بأسس المادية الدياليكتيكية الماركسية على مستوى الحركة
جعلهما لا يدركان الصلة بين المادة والفكر، وهم بذلك يجهلان مبدأ التناقض داخل
الحركة التي وضع أسسه كل من ماركس وإنجلس وطوره لينين بإعطائه لمفهوم المادة بعدا
أدق وأشمل حيث يقول: "المادة مقولة فلسفية للإشارة إلى الواقع
الموضوعي".(6)
وقد استعمل هذا المفهوم خلال نضاله في مجال المعرفة ضد الماخيين
واستطاع تطوير المذهب الماركسي، من أجل معرفة العالم معرفة علمية ضد المثالية
الذاتية واللاعرفانية، وأوضح كيف أن "الدياليكتيك هو نظرية المعرفة
الماركسية" مما ساعده في استنتاجاته حول النفس التي اعتبرها ذات البعد المادي
بقوله: "إن الأحاسيس هي صورة ذاتية عن العالم الموضوعي".(7)
واستطاع لينين تطوير المذهب الماركسي في مجال المعرفة بتطوير
الدياليكتيك الماركسي في حربه ضد الماخيين الذين يريدون إنهاء نظرياتهم المثالية
بالماركسية، وقام بدحض المذهب النقدي التجريبي الذي شوه عبره الوضعيين مفهوم
"الواقعية" الذي أصبح مفهوما مبتذلا، مما جعل لينين يتخذ مفهوم
"المادة" الذي وضعه إنجلس للتعبير عن الواقع الموضوعي في مجابهته لأعداء
الديليكتيك المادي الماركسي.
وطور لينين الدياليكتيك الماركسي على مستوى المعرفة، في ظل أوضاع روسيا
القيصرية التي يسود فيها الاستبداد بارتباطها بأوربا عصر الإمبريالية التي
"تراجعت فيها الديمقراطية إلى الرجعية على طول الخط" كما يقول عن
ذلك(8)، في جميع النواحي الاقتصادية والسياسية والمعرفية حيث انتشر في أوربا
المذهب النقدي التجريبي بزعامة ماخ.
وكان عدد كبير من الاشتراكيين الديمقراطيين قد انبهروا بهذا المذهب
الذي رأوا فيه آخر ما يمكن أن يتوصل إليه الفكر المادي بعد ماركس، معتبرين أن
الماخية هي التي ستقوم مقام الدياليكتيك المادي الماركسي ومن ضمن هؤلاء المناشفة
وبعض البلاشفة، مما وضع أمام لينين هذه المهمة الصعبة التي تجلت في الدفاع عن الفلسفة
المادية الماركسية، وقام ببلورة المنظور الدياليكتيكي المادي الماركسي في مجال
المعرفة الذي يميز الماركسية اللينينية عن غيرها من المذاهب ليعطي للدياليكتيك
المادي الماركسي نفسا جديدا.
لقد حاول الماخيون محاكمة أفكار بليخانوف حسب فهمهم لمسألة الطبيعة والإنسان، وطرحوا مسألة الزمن والمكان والسببية في
علاقتها بقول بليخانوف:"وجود العالم قبل الإنسان"، الذي استنتج عبره أن:
ـ فلسفة كانط لا تفيد في هذا الشأن.
ـ المثالية تقر بعدم إمكانية وجود الموضوع بدون ذات.
ـ تاريخ الأرض بين وجود الأرض قبل الذات بزمن طويل، قبل وجود المواد
العضوية التي تملك درجة معينة من الوعي.
ـ التاريخ اعترف بالمادة والشيء في ذاته.
وأكد أن فلسفة كانط المتسمة باللاعرفانية لا تملك جوابا عن إشكالية
الذات والموضوع لأنها لا تتوافق والعلم المعاصر. ويقول بليخانوف عن موضوع الطبيعة
والإنسان: "لا موضوع بدون الذات بنظر المثالية وأن الموضوع يوجد بنظر المادية
بصورة مستقلة عن الذات ومعكوسا بقدر متفاوت من الصحة في إدراكنا".(9)
وأكد لينين أنه لا يمكن لأي مادي أن يكذب قول بليخانوف هذا لكون:
ـ المادة والطبيعية موجودتان قبل الإنسان.
ـ المثالية الذاتية هي منطلق المذهب النقدي التجريبي من خلال مقولة
أن العالم هو عبارة عن أحاسيس.
و يتم لف مقولة الأحاسيس بمجموعة من الكلمات التي يستعملها أفيناريوس
وماخ، من أجل التغطية عن تناقضاتهما مع العلوم الطبيعية، واستطاع المذهب الماركسي
اللينيني دحض هذا المذهب وجميع المذاهب التي تصب في بحر المثالية الذاتية
والسوليبسيسم.
وفي نقده
للمذهب النقدي التجريبي يستخلص لينين أن هذا المذهب تلازمه على طول الخط المسائل
العرفانية الرجعية التامة، باستعمال جديد للكلمات الحاملة للأخطاء القديمة
للمثالية واللاعرفانية، ولا يمكن الحديث عن الجمع بين الماركسية والمذهب النقدي
التجريبي، وهذا المذهب لا يشكل إلا مدرسة صغيرة من بين المدارس الفلسفية الصغيرة
في العصر الحديث، حيث انطلاق رواده من كانط محاولين الوصول إلى المادية ليعصف بهم
نحو اللاعرفانية الهيومية والبركلية، وعملوا على تكريس مذهب الماخية الغارق في
المثالية في وحدته مع الكمونية أشد إغراقا في الرجعية.
وأكد لينين أن الماخية مرتبطة ببعض العلماء
الطبيعيين المنزلقين عبر نظرية النسبية إلى المثالية خاصة في العلوم الفيزيائية،
بعد الاكتشافات العلمية العظيمة التي حطمت النظريات القديمة الكلاسيكية والتي بينت
نسبية معارفنا، مما كرس انتشار المثالية الفيزيائية على غرار المثالية
الفيزيولوجية في الماضي في أوساط العلماء الطبيعيين.
وعمل هؤلاء الأساتذة البورجوازيون على تكريس
صراع الأحزاب الفلسفية عبر السكولاستيك العرفاني للمذهب النقدي التجريبي، لكون
الفلسفة الحديثة حزبية كالفلسفة منذ ألفي سنة مضت حيث المادية والمثالية حزبان
متصارعان على طول التاريخ، هذا الصراع يعبر عن ميول الطبقات المتناقضة وعن
أيديولوجيتها، عبر "جوهر الأمر المستور" كما قال لينين، ودور المذهب
النقدي التجريبي دور طبقي يسعى إلى خدمة "الإيمانية" ضد
"المادية" عامة والمادية التاريخية على الخصوص، والمذهب النقدي
التجريبي أيديولوجية التحريفية في العصر الحديث.
ففي المجال المعرفي العام يصف لينين التحريفية بأنها "النزعة
الفكرية لاشتراكية ما قبل ماركس"، حيث يسعى الأساتذة المدرسون إلى تمرير
الفكر الكانطي عبر البرامج التعليمية الرسمية، في محاولة لإحياء الفكر المثالي
زاعمين أن المادية قد تم دحضها، وهم في محاولاتهم لمهاجمة الديالكتيك الهيكلي
يحتقرون الفلسفة المادية، وهم لا يستطيعون فهم الديالكتيك الماركسي الذي حاولوا
تعويضه بالفلسفة المثالية للقرون الوسطى، و جعلوا "الدين ليس قضية الدول بل
كذلك قضية الطبقة الثورية" كما قال لينين، في محاولة فاشلة لإدخال التعديلات
على المذهب الماركسي.(10)
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) لينين كناب: المادية والمذهب
النقدي التجريبي.
(2) نفس المرجع السابق.
(3) نفس المرجع السابق.
(4) نفس المرجع السابق، ص:53.
(5) نفس المرجع السابق.
(6) نفس المرجع السابق.
(7) نفس المرجع السابق.
(8) نفس المرجع السابق.
(9) نفس المرجع السابق.
(10) نفس المرجع السابق.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire